وَقفَ الولد طويلًا يُفاضِل بين أكياسِ البطاطس المُعبأة، إلى أن ملَّت أمُّهالانتظارَ وصاحت به: حيَّرتني خُذ أيّ واحد، كله زيّ بعضه. رمَقها الولدبنظرةٍ صارمة، وخرج صوتُه جادًا حازمًا لا يحملُ أثرًا للحيرة: باشوف واحد مش في المُقاطعة. أدامت النظرَ في البضائعِ المَرصُوصة على الأرفُف وقد أسكتها ردُّه، ثم حَسمَت أمرَها وراحت تساعده في اختيارِ ما أراد.
•••
يأتي الفعلُ حَارَ في قواميس اللغة العربية بمعنى تردَّد واضطرب، الحائر اسمُ فاعل والمصدر حَيْرَة بتسكين الياء، وإذا قيل حَارَ الطعامُ؛ فالمعنى أنه نقصَ، وإذا حار البَيع؛ فالمعنى أنه كسَدَ وبَار، أما إذا حار المرءُ عن الشيء فقد تركَه ورجعَ عنه. هناك أيضًا حَيَّر بفتح وتشديد الياء وهو فعلٌ مُتعدٍ يحتاجُ إلى مفعولٍ به؛ فإذا حيَّر واحدٌ الآخرَ فقد أربكَه وأثارَ دهشتَه، وإذا حيَّر الطفلُ أباه فقد منعه من اتخاذ موقفٍ ما، أما إذا حيَّرت المسألةُ الطلاب فقد أعجزَهم حلُّها.
•••
الحيرانُ هو الشَّخص التائه الذي يَعجَز عن الاهتداءِ إلى السَّبيل؛ ولإنبات الناسُ حيارَى أمام المَفارقِ وغُمَّت عليهم الطَّريق؛ فلا مَنجى لهم إلا بالبحث عن دلائلِ الحَقيقة التي تُبدد الحيرةَ، وتكشف مَواطئَ الأقدام، وتُحدد اتجاهَ الخطواتِ دون لَبسٍ أو تَضليل.
•••
لعبد الرحمن الكواكبيّ أبياتٌ من الشِعر تقول: غيَّر تمو يا حيارى ما بأنفسِكم .. فغيَّر اللهُ عنكم سابغَ النّعم .. الله لا يُهلك القرى إذا كفَرَت .. وأهلها مُصلحون في شؤونِهم. يُعَدُّ الكواكبيّ من أعظم من كتبوا حَول الاستبداد، والحِكمَة في كلماتِه واضحةٌ قويَّة، فالناس ما اهتمّوا بأحوالهم وجعلوا من تقويمِها أولويَّةً على رأس أشغالهم؛ لم يقع عليهم حرجٌ، وداموا في عِصمَة من الزوال والهلاك. ••• وجود اختياراتٍ كثيرة أمام المَرء يُزكي الحيرةَ ويزيدها، والعجيبُ أن الوفرةَ التي تبدو من علاماتِ الراحةِ والرَّفاهة؛ قد تتحوَّل بعض الأحيان إلى مصدر قلقٍ يؤكده المأثور الشعبيّ: "اللي تحبّ تحيَّره خيَّره"؛ والقصد أن قلةَ المَعروض تسَهل المُهمة، وتُزيح عن الكاهلِ عِبءَ الانتقاءِ مِن بين مُتعدّدات.
•••
يُقال في مَعرضِ النُصح: "امشِ عِدل يَحتار عدوُّك فيك"، والمراد حثَّ الناسِ على سلوكِ الدروبِ المُستقيمةِ في الحياة؛ تلك التي يصعُب أن يتسَللَّ من ثغَراتِها مُنافسٌ أو غريم، وقد جَرَت العادةُ بأن تجلبَ المساراتُ المُتعرجةُ وفرةً من الغنائمَ؛ لكنها في الوقتِ ذاته تُضعِفُ السائرَ وتُضاعِف من فُرصِ سقوطه.
•••
غنَّت أم كلثوم "حيَّرت قلبي معاك" من ألحانِ وكلماتِ القديرين رياض السنباطي وأحمد رامي؛ والحقُّ أن الحيرةَ مَنبعها عقليّ بامتياز، وإذ يختار القلبُ بعضَ المرات ما يستبعِد العقل؛ ينشأ التردُّد ويتأزم المَوقف. الصراع بين الفِكر والعاطفة صعبٌ مُقضٌّ، والصعوبةُ تأتي من مَيل البشر لما يُسعد نفوسَهم في التوّ واللحظة؛ فيما العقلُ يُرجح ما لا يُهدي النفسَ سعادتها الفورية؛ بل راحتها الآجلة.
•••
حين يَحار الواحد منا في اتخاذ قرار مصيريّ؛ يستعصي عليه النومُ. يُمضي ليلَه في سهدٍ وأرَق، ويصحوا وقد انتفخت الجيوبُ أسفل عينيه وأحاطتها هالاتٌ داكنة؛ فالأفكار التي لا ترسو على برّ تطرد النعاسَ بعيدًا، وتستبقي الحائرَ يقظًا مُتنبهًا. غنَّت شادية "أقرا كتاب واثنين واتقلب ع الجنبين"، والقراءةُ والحَركةُ كلاهما محاولةٌ يائسةٌ لاستدرار النَّوم، وكلاهما أيضًا محكومٌ بالفشل مرة تلو الأخرى؛ ما دام المَرءُ في حيرته مُقيمًا. الأغنية كلمات جليل البنداري ولحن منير مراد، وقد قُدّمت في مُنتصف الخمسينيات تقريبًا من خلال أغنية فيلم "أقوى من الحب".
•••
بعض الأحيان يكون اتخاذُ القرار الخطأ؛ أفضلَ من مُواصلة الحيرةِ التي تجعل المرءَ متوترًا مَهمومًا، يعتصر ذهنه ويجترُّ أفكارَه دون أن يهدأ له خاطر. يتمنى الحائر لو تمكن من الاختيار فأنهى حيرتَه واطمأن بالُه، لكن الأمرَ ليس سهلًا على مَن لم يعتَد صيغة الحَسم مع ذاته.