قمت بتشغيل الفيديو الذى يبرر فيه رئيس مجلس مدينة الأقصر قرارات لجان المحافظة بهدم قصر أندراوس الشهير أكثر من خمس مرات متتابعة، على أمل أن أجد فى كلامه جملة واحدة منطقية تخفف من آثار هذه الكارثة أو تبررها.
ولفتنى قوله بأن التحرك لهدم القصر جاء بعد أن تلقت الجهات المعنية بلاغات عن قيام لصوص آثار بأكثر من محاولة للتسلل إلى داخل القصر والقيام بالحفر بحثا عن آثار فى دهاليزه القريبة جدا من معبد الأقصر والتى تقع أيضا على حافة طريق الكباش الذى يجرى تطويره.
وبدلا من أن تقوم الجهات المسئولة بدورها الأصيل فى حماية القصر المسجل ضمن قوائم جهاز التنسيق الحضارى عبر توفير دورية أمنية دائمة أو زيادة عدد الخفراء الذين يتولون حراسة أغلب آثار الصعيد رأت تلك الجهات أن الحل الأسهل هو هدم القصر من بابه والخلاص من وجع الدماغ.
وكالعادة حصلت المحافظة على كل الموافقات التى تيسر قرار الهدم من لجانها الهندسية ومن اللجان التى تضم خبراء الآثار وهم الآن ذوو سمعة باتت محل شك كبير ولدينا سوابق كثيرة تبرر هذا الشك للاسف.
وعبر سنوات عكست وسائل الإعلام سجالات ونقاشات بين خبراء آثار كانت تعكس مختلف أشكال الاستقطاب أكثر مما تعكس مناقشات علمية تضع فى اعتبارها المصلحة العامة ومقتضيات احترام العلم والمسئولية الوطنية أمام الأجيال وبالتالى تعزز الشك تاريخيا فى آراء تلك النوعية من الخبراء، ولم يعد الرأى العام يعتد بما يصدر عن تلك اللجان، خاصة وأن الراحل حسن البارودى علمنا حكمة تاريخية وهى (أن الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا) وعلى أثر رسوخ هذا المعنى أصبح الكلام الذى يصدر عن لجان غير مستقلة، لا يسمن ولا يغنى من جوع، ولا يصلح حتى للاستهلاك فى برامج «التوك شو» لأن حكمة أخرى تقول «من يدفع للزمار هو من يختار اللحن».
شخصيا حاولت وأنا أشاهد فيديو المسئول الهمام تذكر جملة قرأتها ذات مرة يقول معناها (إن اللجان دائما بلا قلب) ليس ذلك لأنها موضوعية وإنما لانها لا تفهم المعانى التى يحزن الناس من أجلها، ولا تعترف بالتاريخ ولا تؤمن بالحنين.
وفى قصة هدم القصر تحدث البعض عن الرغبة فى التخلص من المبنى لأنه يشوش الرؤية البصرية ويحجب معبد الأقصر وهى حجة واهية لأن المبنى والمعبد تعايشًا معا طوال أكثر من 120 عاما، وإذا كان لمعبد الأقصر قيمة تاريخية أعمق فإن قصر أندراوس يحمل بدوره قيمة أخرى تخص تاريخنا المعاصر ما كان ينبغى أن نضحى بها مهما كانت الدوافع.
وفى الفيديو الذى نشره موقع جريدة «الوطن» طمأن المسئول الهمام الجماهير على المحتويات التى كانت بداخل القصر وفقا لمحضر الفحص الذى دونته اللجنة التى عاينته قبل بدء عملية الهدم وحدثنا المسئول عن ثلاجة وغسالة وأنتريه متهالك جرى تخزينه لحين العثور على ورثة على استعداد لتسلم الانتريه وليس القصر.
وتعكس هذه التصريحات أكثر من غيرها حجم المأساة التى نعيشها، لأن المسئول تصرف فى حدود فهمه للقانون وإخلاصه لعملية (تستيف) الأوراق وملء الخانات التى ينبغى ملؤها ليشعر أنه أدى المطلوب.
المسئول الذى تم تصديره للإعلام كمنفذ لقرار الهدم لم يكلف خاطره بالعودة إلى الأرشيف والنظر فى تاريخ المبنى والتعرف على قيمته التاريخية التى أصبحت اليوم على كل لسان، بعد أن نجحت «السوشيال ميديا» فى تنبيه الناس لهذه القيمة والتحسر على إهدارها ولكن للأسف مثل هذه الأشياء تأتى دائما فى الوقت الضائع وبعد وقوع «الفاس فى الراس».
كنت أتمنى لو عاد هذا الرجل الطيب لكتاب (معارك العمران) وهو أحدث مؤلفات الناقد سمير غريب وقرأ ما فيه وعرف أن القصر (عليه العين) من زمان وأن جهات كثيرة من أيام مبارك كانت تتعجل هدمه، لولا أن سمير غريب وكان مسئولا مهما فى الدولة ورئيسا لجهاز التنسيق الحضارى قاوم هذا السعى وأصر على إعلان رأى الجهاز واستعان بلجان اخرى قاومت حمى الهدم وقامت بتسجيل المبنى ضمن المبانى التى ينبغى الحفاظ عليها وترميمها ودخل التنسيق الحضارى ورئيسه فى خصومات معلنة مع مسئولين كبار وسجل غريب مواقفه باسمه وصفته فى مقالات نشرت فى صحف قومية كبرى، ما يعنى أن هناك لجانا أخرى تبنت آراء مغايرة لما انتهت إليه لجان المسئول الذى حكى لنا حكاية الثلاجة والانتريه المتهالك وتجاهل حكايات أخرى ترتبط بالقصر وهى أكثر إثارة من أول زيارة سعد باشا زغلول للمكان وصولا لجريمة قتل ورثة القصر والتى جرت قبل سنوات قليلة وبصورة تعزز الشك فى دوافع الهدم ومبرراته التى تحتاج لمسئول فى مرتبة أرفع لتفسيرها أمام الرأى العام.