ما بين الرغبة فى استكمال أهداف ثورتى يناير ويونيو، وبين الخوف من سقوط الحكم فى أيدى الإخوان مرة أخرى، تتأرجح مشاعر ملايين المصريين حول الدور الذى ينبغى أن يضطلع به الفريق عبدالفتاح السيسى فى المرحلة المقبلة. فالبعض يرى ضرورة ترشحه لرئاسة الجمهورية، والبعض الآخر يطالب باستمراره كوزير للدفاع، وان يظل بعيدا عن لعب دور البطولة الأول على المسرح السياسى حاليا بكل شجونه الدامية وشئونه المقلوبة.
ووسط هذه الحيرة، يطرح الدكتور فؤاد عبدالحكيم أستاذ الاقتصاد الزراعى بجامعة القاهرة «خريطة طريق» لخطواتنا المقبلة، مستندا إلى حياة سياسية طويلة تخللتها تجربة اعتقال وتعذيب مريرة فى سجون عبدالناصر، واقتراب من كواليس الحياة السياسية لعشرات السنوات التى أعقبت ثورة يوليو 52، اطلع خلالها على الكثير من الأسرار الخطيرة التى لو طرحها الرجل فى كتاب لربما قلبت الكثير من «قناعاتنا التاريخية» رأسا على عقب!
بوضوح مطلق يطالب د.عبدالحكيم كل المرشحين السابقين لرئاسة الجمهورية بالانسحاب من السباق القادم، والاصطفاف خلف المستشار عدلى منصور مرشحا للثورة لمنصب الرئاسة، ليعطى بعقليته القانونية المرتبة، ثقلا سياسيا وأخلاقيا للحكم فى مصر، خاصة أن الرجل يمتلك رؤية واضحة لتوجهاتنا السياسية فى المرحلة المقبلة تعتمد على دولة القانون والمؤسسات، بعيدا عن دولة المافيا التى حاول الإخوان إقامتها فى مصر، وبعيدا أيضا عن الزعيم الفرد الذى يفعل فينا وبنا ما يشاء، ويطبق علينا ما تعنى له من أفكار وسياسات.
وطبقا لخريطة طريق د.عبدالحكيم، فانه ينبغى ايقاف الحملة التى تنادى بترشيح السيسى للرئاسة، وان يبقى الرجل فى وزارة الدفاع ليضطلع بمهامه الأمنية الثقيلة فى مواجهة الاخطار التى نواجهها على الصعيدين الداخلى والخارجى، دون أن يمنعه ذلك من المشاركة فى صنع القرار السياسى داخل مجلس الوزراء، وهو ما يستتبعه إعطاء حكومة الدكتور حازم الببلاوى الفرصة الكاملة بتركيبتها المتوازنة، حتى تخرج من عنق الزجاجة الذى نمر به حاليا، وبعدها يكون لكل حادث حديث.
أنا شخصيا ليس لدى أى تحفظات على هذه التركيبة السياسية للسلطة فى مصر فى هذه المرحلة، إلا فيما يتعلق بالخطاب الاقتصادى ــ الاجتماعى لوزارة الببلاوى، فحتى الآن لم تقدم لنا هذه الحكومة رؤية محددة وواضحة فى إعادة توزيع الثروة القومية على أسس أكثر عدالة، ولم تكشف لنا بوضوح طبيعة الأسلحة الاقتصادية التى ستتخذها فى مواجهة معركة الفقر فى مصر، ولا دور الدولة المفترض ان تقوم به فى ضبط الأسواق، ومدى استعدادها مثلا لفرض تسعيرة جبرية على السلع الأساسية، فضلا عن رؤيتها الاستراتيجية لحل أزمتنا الطاحنة والمتوازنة جيلا بعد جيل فى التعليم والإسكان والصحة والمرور والتلوث...الخ.
لا نريد أن نحكم بشكل مسبق على مدى قدرة حكومة الببلاوى على مواجهة هذه القضايا والأزمات، وابتكار حلول غير تقليدية لها، فأمام هذه الحكومة خيارات واسعة للحركة، لكنها لن تستطيع ان تتحرك خطوة واحدة للأمام قبل أن تحدد انحيازاتها الاجتماعية والطبقية، حتى لا تغرق كما فعلت عشرات الحكومات من قبلها فى مستنقع الوعود الوردية، دون ان تحقق انجازا واحدا.
الثقافة الموسوعية التى يتمتع بها الدكتور الببلاوى مع خبراته الإدارية ونزاهته وطهارة يده، كلها عوامل تدفع لنجاح وزارته فى تحقيق الأهداف المنوطة بها، ومع ذلك فان هذا وحده لا يكفى لضمان هذا النجاح المأمول، فالناس تريد ان ترى تحسنا ولو نسبيا فى أوضاعها المعيشية، حتى تعطى للرجل ولوزارته ثقتها وأصواتها فى الانتخابات، وهو ما قد يفرض على د.الببلاوى اتخاذ قرارات صعبة لكى يجد المواءمة بين تحقيق إصلاحات اجتماعية تمس حياة ملايين الفقراء ومحدودى الدخل فى مصر، وبين تكلفتها الاقتصادية التى قد تفرض على الرجل إجراء تغييرات هيكلية على فلسفة التنمية الاقتصادية التى تتبعها وزارته.
الكرة الآن فى ملعب الدكتور الببلاوى، الذى لا شك أنه يدرك أن الإخوان نجحوا فى بث سمومهم فى المجتمع المصرى داخل علب الزيت وأكياس السكر التى كانوا يوزعونها على الفقراء ومحدودى الدخل مقابل أصواتهم فى الانتخابات، مستغلين ابتعاد الدولة عن لعب دورها تجاه هذه الشرائح الاجتماعية، كما انه بلا شك يدرك أيضا أن استعادة هذا الدور المفقود للدولة سيكون له الكلمة الفصل فى المعركة ضد الفاشية الدينية لمافيا الإخوان من تيار القطبين الذين سرقوا التنظيم، ثم سرقوا ثورة يناير، ثم حاولوا سرقة البلد كلها بعد ذلك.
ما سيفعله الببلاوى سيحدد مصير منصور والسيسى بل وسيحدد مدى نجاح ثورة يونيو نفسها فى تحديد أهدافها، أما ما لن يفعله فسيكون أقصر طريق لتصبح حكومته كبش فداء جديد لسياسات فاشلة وثورات يتيمة.