نشر موقع 180 مقالا للكاتب الفضل شلق، تحدث فيع عن مساوئ تصعيب وتعقيد اللغة العربية، وما يجب علينا فعله حتى لا يصيب اللغة العربية ما أصاب اللاتينية... نعرض منه ما يلى:ماذا تعنى قدسية اللغة العربية بالنسبة لأهلها؟ هل هى فقط أن هذه هى اللغة التى نزل بها الوحى؟ فاللغة إما تعبر بشكل أو بآخر، وإما تؤثر تأثيرا عميقا، بشكل أو بآخر، عن البنى الثقافية وربما الاجتماعية.
الأرجح أنه لولا نزول الوحى باللغة العربية لأصابها ما أصاب اللغات الأخرى من توسع مع الفتوحات وضمور مع التراجع الجغرافى والاقتصادى لانتشارها، ولما تعرب كثير من الناس فى المجال الثقافى العربى لمجرد أنهم تحولوا إلى العربية مهما كانت أصولهم الإثنية.
لا تشمل قدسية اللغة العربية اللغة الفصحى أو العاميات. تقتصر على لغة القرآن المثبتة التى لا يتغير فيها حرف أو مَدة أو شَدة أو حركة واحدة، ما يعتبر خطأ لغويا بمعنى مخالفة لقواعد اللغة التى وضعت بعد تثبيت القرآن بقرن أو قرنين. العاميات تتطور بتطور الحياة الاجتماعية فى المناطق التى تتكلم بها، وتصيبها تغيرات محسوسة فى جيل واحد نتيجة الاحتكاك بمجتمعات أخرى وتكنولوجيات جديدة. هذه تفرض نفسها فى أحيان كثيرة على الفصحى.
كثرة القواعد وتعقيد النحو وسهولة الاشتقاق قاد الكثير منا إلى القول إن اللغة العربية «سماعية» أى أن صحة الكتابة والصياغة يعتمد على السماع لا على قواعد مكتوبة.
إن قواعد اللغة العربية مثل الشريعة (الفقهية) الإسلامية، لم تضعها مؤسسات الدولة بقدر ما وضعتها كتابة نخب طال الجدال فى ما بينها، فكانت تزعم أن ما تقوله أقرب إلى لغة الأعراب، أعراب شمال الجزيرة العربية. شريعة حمورابى، فى بداية الألف الثانى قبل الميلاد، وضعتها الدولة. القانون الرومانى وضع بتكليف رسمى للجان خاصة تحت إشراف الدولة. انعدام الطابع الرسمى كان له أثر كبير فى تشكيل بنية اللغة الفصحى كما فى شريعة الفقهاء. الفارق ليس بين السماعى والمكتوب بل بين الطابع الرسمى وغير الرسمى. لا ننسى أن التدوين بدأ منذ بداية الإسلام، ووضع الحركات فوق الأحرف بدأ مع أبى الأسود الدؤلى بتكليف من الإمام على بن أبى طالب.
•••
تمنعنا قدسية اللغة من إدخال تعديلات، بالأحرى إصلاحات على الفصحى. إصلاحات تهدف إلى أن يقرأ المرء كى يفهم ولا يحتاج أن يفهم كى يقرأ. ليست اللغة غاية بل وسيلة للفهم. أصبحت بتعقيداتها وكثرة الاجتهادات فيها وصعوبة تعلم نحوها وكأنها سر مصون. لغة جميلة وضرورة قومية تحتاج إليها مجتمعاتنا فى زمن تهاجمها الذئاب الكاسرة من كل جانب. ما أصابنا هو أن عدم تبسيط اللغة جعل الكثير منا يعزف عن دراستها بجدية. وكثرت الأغلاط فى الخطابة وقراءة الأخبار والأحاديث العادية. وصار لكل منا عذر كى يخطئ الكلام. فكأنه يستبيح لغته بحجة أنها لغة سماع. الإصابة فيها عشوائية. وفى معظم الأحيان يخلو الكلام من الإصابة. صاروا يسمونها سماعية بسبب صعوبتها التى تزيد منها المناهج التربوية التى لا تعير الاهتمام إلا للمواد التكنولوجية؛ ذلك أن دراستها تدر رواتب أكبر للمتخصصين فيها.
السماح بالأخطاء فى الكلام والكتابة يبيح السماح بالأخطاء فى جميع نواحى الحياة الأخرى. يصير الخطأ طريقة فى الحياة وأسلوبا للعيش. يكاد يصير مهنة يعتاش منها أصحابها. يتعمدون الخطأ فى اللغة كى يكسبوا ماديا. الأخطاء تفتعل من أجل الغش والاحتيال. يفقد المجتمع الاستقامة ويفقد سويته. النطق وسيلة للإفهام. يصير وسيلة لغيره. ضبط الكلام يعنى ضبط النفس. يعنى الانضباط والقابلية للتنظيم. والحداثة تعنى فى ما تعنيه الانضباط والقابلية للتنظيم، زائد القابلية للعمل الجماعى والتعاون، ولو كان ذلك تحت إمرة من يستغل ويظلم. الانضباط اللغوى يعلم النظام والخضوع للقانون والصبر من أجل أن يأتى العمل تاما. ويعنى أيضا البعد عن العشوائية فى سبيل الوصول إلى الإتقان. وما الإتقان كما قيل إلا القيام بالعمل حتى إتمامه دون ترك آخر 5% دون إنهاء بنفس المستوى الذى بدأ به العمل؛ العمل المادى والفكرى.
لذلك انطلقت كتب الأصول فى الشريعة من فصول حول اللغة وضبطها. دون ذلك الضبط لا يمكن فهم ما أوحى به ولا شرحه ولا إيجاد قواعد للسلوك المقبول. لم يكن عبثا الانطلاق من الضبط اللغوى الذى يستحيل الفهم دونه. لا يمكن أن نبقى فى حالة الفهم قبل القراءة. يتوجب إصلاح النحو وقواعد اللغة من أجل تيسير الفهم والإدراك. هى اللغة العربية التى نعتز بها ونطرب لشعرها ونثرها. الصعوبات فى اللغة ناجمة عن تعقيد قواعد النحو والإعراب والصرف.
يبذل الواحد منا الكثير من الجهد كى لا يخطئ فى الكلام. ذلك يعيق التفكير. التفكير فى صحة وإعراب الجملة، وفى نفس الوقت فى صحة الفكرة التى يراد إيصالها. أمر يعيق التفكير. فى أوضاعنا الصعبة، يجدر بنا أن نترك للفكر حريته، وألا نقيده بضرورات الكلام. نراوح بين الصحيح والخطأ فى اللغة كما نراوح بين الحرام والحلال فى الدين. عند تبسيط اللغة يصير معظمها فى مجال المباح والمستحب، ويحلو الكلام بها ونطرب لحاضر كلامها كما نطرب لشعر المعلقات. يصنع النحاة واللغويون من البلاغة سرا لا يناله أو يصل إليه إلا من نال الدرجات العليا فى العلم من الأصول الدينية. فكأن تلك مهنة. وكأن للمهنة سرا. كأن الأسرار لا يصل إليها إلا الأخيار.
•••
تصعيب اللغة وتعقيد قواعدها يبعد الجمهور عنها كما أبعدت اللاتينية الجمهور الأوروبى عن دين يجب أن يُفهم، فكان لجوء العامة إلى العامية واستبعاد اللاتينية وثورة الإصلاح الدينى، وحرب إصلاح، وإصلاح مضاد، دامت قرنا ونصف. ليس فى التعقيد خطرا على قدسية اللغة العربية وقدسية القرآن الكريم. الخطر هو على الفهم والإدراك والعقل لدى العامة. ما دام العامة مستبعدين عن الفهم، سيبقى الاستياء سيد الموقف. ليس المراد عامة تجهل كما ليس المراد كهنة لغة تحتفظ بسر المهنة دون العامة. حركة الإصلاح الدينى كانت منطلق انفتاح العلمى وتقدم الغرب علينا. وكانت للمطبعة التى اخترعت قبل الإصلاح الدينى والثورة البروتستانتية أثر كبير فى انفتاح اللغة على العامة ونشر الدين وتوسع الفهم والإدراك. فى الزمن ذاته، مُنعت المطبعة عندنا، إذ خافت منها النخب الدينية والثقافية، وكان ذلك سببا فى تدهور وانحطاط الدولة العثمانية. بقى على المؤرخين أن يحسبوا أهمية هذا المنع والإغلاق الذى نادرا ما يُذكر فى كتاباتهم التاريخية حول الانحطاط والتراجع الإسلامى.
على أثر اختراع المطبعة رخُص ثمن الكتب فى الغرب وانتشرت الجرائد. صارت المعرفة مباحة ولم يعد مغلقا عليها بين مقدسات السدنة. وتحريم المطبعة عند ظهورها فى المجتمعات الإسلامية لمدة قرون ثلاثة بعد اختراعها أدى إلى هوة ثقافية بين مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية لم تردم حتى الآن. المجتمعات التى استهانت بالمعرفة، والأهم من ذلك، استهانت بنشر المعرفة هى التى حفرت قبرها بيدها إذ أصابها التأخر فى نفس الوقت الذى تخلت أوروبا عن اللاتينية، وتبنت اللغات المحلية واستخدمت المطبعة وتبنت وسائل النشر بأسعار رخيصة للكتب والصحف. حققت المعرفة واكتشاف البحار والأفلاك ومختلف العلوم أسبابا للقوة، ما أدى إلى استعمار بلادنا التى بقيت المعرفة فيها حتى القرن التاسع عشر مقتصرة على نخب معزولة، تقرأ المنسوخة وتشتريها بأسعار غالية.
قيل الكثير عن أسباب تخلف بلادنا وتراجعها أمام الغرب. هذا التخلف بدا واضحا فى القرن الثامن عشر. لكنه بدأ فى القرن السادس عشر عند منع حكام بلادنا المطبعة بعد أن اخترعت فى الربع الأخير من القرن الخامس عشر. قبلها كان ميزان التطور والتقدم مقارنة بالغرب لصالح مجتمعاتنا.
المعرفة ليست مجرد تسلية ترفيهية تقوم على أطراف المجتمع والدين. وليست المعرفة فى المجتمع هى الدين وحسب. المعرفة عمل ودأب وجهد يؤدى إلى إنتاج وتقدم. يتقدم المجتمع عندما تنتقل المعرفة من أطراف المجتمع إلى مركز وعيه، ويصير الدين هامشا ضروريا على أطراف وعيه. حصل ذلك فى الغرب مع هذا الانتقال، فانفتح المجتمع وبدأ الاجتهاد بالانتقال من المعلوم إلى المجهول. بدأ عصر الاكتشافات الجغرافية والذهنية بعد المطبعة بعقود قليلة. كذلك الإصلاح الدينى (ثم الإصلاح المضاد)، وكلاهما فى العقل الغربى. وفى أساس كل ذلك الثورة اللغوية.
لكن لا يصيب لغتنا ما أصاب اللاتينية. يترتب علينا الشروع فى ثورة لغوية تجعل الفهم لاحقا للقراءة لا سابقا عليها. نفهم باللغة وتداولها. الاتصال والتواصل بين البشر هما فى الأصل لغويان. ما دامت اللغة صعبة المنال، وقواعدها مغلقة إلا عند من لديه سر المهنة، فإن ثورتنا الفكرية والمعرفية ستبقى عرجاء. لغتنا الجميلة، التى نعتز ونفخر بها، يجب أن يكون إصلاحها فى تبسيطها وتعميمها على كل البشر فى مجتمعاتنا. وذلك سيكون فى أساس ثورة التقدم والخروج من قمقم المجتمع المغلق.
أما آن لهذا العملاق أن يخرج من القمقم؟
النص الأصلى: