نشر موقع على الطريق مقالا للكاتب «الفضل شلق« يتناول فيه المخاطر التى تمثلها وسائل التواصل الاجتماعى والمنصات الإلكترونية.
لا بد من الحديث عن نهاية الجنس البشرى. عند التفكير فى أن ما هو موجود من الأسلحة النووية لدى دول عديدة يكفى عدة مرات للقضاء على سكان الأرض. ربما يحصل الأمر عن طريق تحويل الجنس البشرى إلى شيء آخر، إلى قطعان الفرد فيها دون مرتبة الحيوانات فى المعرفة والذكاء والعقلنة. نخبة تحكم البشرية عن طريق ما يسمى وسائل الاتصال الاجتماعى. فهل هى أسلحة دمار شامل؟
معظم هذه الوسائل منصات تنقل المعلومات من طرف إلى آخر وتعمّمها. ربما كانت المعلومة صحيحة أو مفبركة. لكن المنصة ليست فقط وسيلة نقل كالهاتف، بل هى صانعة برامج ومحتويات تنقلها إلى المشاهد. هى كالهاتف، لنقل الأخبار، وكالتليفزيون لبث الأخبار. وهى منصة نقل وصانعة معرفة فى نفس الوقت. والمهمة الأخرى التى لا تقل خطورة هى المراقبة. هم بضع شركات يقبع المسئولون عنها فى بضع غرف يتابعون جميع المعلومات المتنقلة عبر المنصات. هؤلاء يعرفون كل شيء تقريبا عن كل من يحمل هاتفا ذكيا. لحامل الآلة الذكية الحق بأن يبث رأيه أو أى شيء آخر يريد قوله. لكنه يتلقى من المضامين والبرامج والألعاب أكثر بكثير مما يبثه، ومن ذلك الأخبار الكاذبة، والآراء الملفقة، وشتى الأكاذيب الأخرى.
عدد كبير من البشر يحملون هذه الآلة الذكية من ماركة معينة أو أخرى. يتكاثر عددهم بالملايين كل يوم. صار الهاتف الذكى الموصول على الانترنت ضرورة لكل فقير وغنى ومعدم.. هذه الآلة بنك معلومات عن صاحبها أولا وعن العالم ثانيا.. يقضى كل فرد وقتا مع هذه الآلة الذكية وتوابعها أكثر مما يقضى مع عائلته وأصدقائه وذاته. لا تنفع النصائح المتوالية من علماء الاجتماع وغيرهم لإقناع الناس بخفض مدة الاختلاء اليومية بالآلة الذكية. يفضل معظم الناس تسليم ذواتهم لها والخضوع، بدل الاستقلال عنها واحترام الذات.
وضعت هذه الآلة بيد البورجوازية العليا ماكينة ذكية تنقل الأخبار وتفبركها فى وقت واحد. كانت الشكوى منذ نصف قرن وأكثر طول الساعات التى يقضيها المرء فى مشاهدة التليفزيون، حين كان التليفزيون أداة بث وحسب، ينقل الأخبار إلى المشاهد، مع تحيّز لهذا الاتجاه أو ذاك، لكن تدخله فى صياغة المضمون كان ضئيلا. وكان يعتمد وسيلة تلقين أيديولوجى.. وكان معلوما أن شركات التليفزيون مملوكة لمصالح وشركات كبرى، ولا يمكن الخروج على خطها الأيديولوجى..
الماكينة الذكية تفوق ذلك كله. المحتوى فيها يتجاوز مئات وربما آلاف التطبيقات، حتى إنها صادرت مهام التليفون والتليفزيون، وتجاوزتهما إلى تقديم المحتوى. كان الهاتف ثم التليفزيون ينقلان المعلومة وبعض المعرفة. صارت الآلة الذكية تنقل المعلومة وكل المعرفة لم تعد هناك حاجة إلى صحيفة أو كتاب، وعلى أساس ذلك يتشكل الوعى.
***
ويضيف الكاتب أن المنصات ليست جمعيات خيرية، بل مهمتها الربح. الربح هدف كل نشاط رأسمالى. هى منصات الرأسمالية ولا بدّ من أن تعمل من أجلها وفى خدمتها.. الرأسمالية الآن تستغل دماغك، وتقرر محتويات عقلك، وتكيّفك نفسيا. أنت تقضى مع الآلة الذكية ساعات أكثر مما تقضى مع عائلتك. لا بد وأن تتكيّف مع الآلة الجديدة وتسلمها وعيك وإرادتك. هى تصنعهما من جديد.
فى النظام الجديد نخبة فى مكان من العالم، أو فى أمكنة متعددة، تقرر أفكار الناس واتجاهاتهم السياسية. هذه الملايين من الأغنياء والفقراء الذين يمتلكون الآلة الذكية يمكن توجيههم وزرع الأفكار والاتجاهات السياسية وغير السياسية فى أدمغتهم ليشكلوا القطيع الذى يساق من الغرف التى تدير منصات «التواصل الاجتماعي». المنصات تقرر المحتوى الفكرى فى أدمغة حملة الآلة الذكية. تفرّغ أدمغتهم مما يمكن ألا يتناسب مع العالم الجديد. تحشو أدمغة الكثرة من الناس بما يناسب. مع تحوّل هؤلاء إلى قطعان، يكون طبيعيا أن يتجهوا إلى الفاشية والنازية أو ما يسمى اليمين المتطرف. لن تُنشئ البورجوازية سوى أفكار اليمين المتطرّف الذى يتطوّر تلقائيا إلى الفاشية والنازية. ربما هذا ما يفسّر صعود اليمين فى العالم. الوسائل الذكية لم تخلقه بل جعلته ينتشر. فى الحملات الانتخابية، هناك دور استثنائى للآلة الذكية والأخبار التى تنشرها، سواء كانت صحيحة أو مزيفة. المهم أن تتقدم وجهة النظر، مهما كانت، على الرؤى الموضوعية.. جحافل من البشرية تذهب إلى صناديق الاقتراع حاملة وجهات النظر التى تعبّر عن فراغ الدماغ والتطرف والعداء للغرباء، والكره للمهاجرين، والإحساس الدائم بالخطر.. خوف من الغزاة (المهاجرين) وغضب على سلطات يعتبرونها متآمرة ضد وظائفهم. يغفلون أن تصدير الصناعة من بلدان المركز هو ما أفقدهم وظائفهم، ويغفلون أن الرأسمالية هى من فعل ذلك. الفاعل بنظرهم هو القطيع الآخر، القومية الأخرى، الغزاة الجدد. لا يعى هؤلاء أن التقدم الصناعى والتقنى الذى يضع الآلة فى جيبهم هو ما ينتج البطالة. لا يعرفون، أو لا يريدون أن يعرفوا، أن البطالة صناعة محلية، وأن البطالة نتيجة حتمية لتركّز رأس المال بيد النخب البورجوازية.
***
الإنتاج يتم فى أماكن محصورة. يحتاج إلى عدد قليل من الناس. الناس لا يلزمون إلا كمستهلكين. الذكاء الاصطناعى لا يجرّد الطبقات الدنيا من أدمغتها وحسب، ولا يحولها إلى البطالة وحسب، ولا يجعل قيام النقابات أمرا مستحيلا وحسب، بل يجعل الحاجة إلى هؤلاء الناس غير ضرورية إلا كمستهلكين. المستهلكون العاطلون عن العمل، معظمهم فقراء، لا يملكون ثمن الآلة الذكية.. يزداد الغضب لكنه لا يوجّه ضد المستغلين الحقيقين، بل ضد الآخرين الغزاة، ضد المهاجرين الذين هم أيضا ضحايا، وهم أيضا فقراء. المضامين التى تصنعها منصات التواصل الاجتماعى وتغزو بها أدمغة الفقراء فعلت فعلها فى تحميل الضحية مسئولية الجريمة. فعلت فعلها فى تهيئة الجو لاستخدام العنف. عنف ضد المهاجرين الذين يتهمون بالإرهاب، وما يشبه ذلك. عنف يبدأ متفرقا ثم يمكن أن يقود إلى عنف بين الدول الكبرى وبين الدول الصغرى. الأفضل بالنسبة للنخب المالية أن يكون عنفا تمارسه الدول الكبرى ضد الصغرى، حيث الانتصار مضمون. أما حين يتحوّل العنف إلى ما بين الدول الكبرى حاملة القنابل الذرية، ففى ذلك ما ينذر بنهاية العالم.
***
ويستطرد الكاتب قائلا إن البشرية أمام خيارين: إما تحويل الأكثرية الاستهلاكية المستدينة إلى أشياء لا تلزم؛ إبادة جماعية مع الحفاظ على حيواتهم؛ وإما حروب إبادة ضد الآخر المكروه الذى يشكل خطرا داهما. لا غرابة أن يعود المحافظون الجدد أو أبناؤهم إلى الظهور فى الولايات المتحدة؛ وأن يظهر أمثالهم فى بلدان أخرى. هل يستطيع هؤلاء سوى تكرار تجربة غزو العراق على مدى أوسع فى هذا العالم؟
العنف فى مواجهة السياسة. اتفاقات سياسية واقتصادية وعسكرية حول العالم تلغى. تتلقى الدول بل الأمم الأقل حجما تعليمات بشكل أوامر. لا مجال أمامها إلا التخلى عن سيادتها وتقرير مصيرها ومالها وثروتها لإرضاء الآخر الأكبر. لم يعد التفاوض هو الطريق للوصول إلى اتفاقيات.. الجماهير الفاشية تسرّ بالرئيس القوي؛ الرئيس الذى يوجّه الأوامر ولا يفاوض ولا يجترح التسويات. باستطاعته تقديم الوعود بغد أفضل وخفض مستوى البطالة ورفع الأجور. لكن الأجور لا ترتفع، والبطالة لا تنخفض فعلا. كل تلك الوعود تتحقق فيما بعد كما يدعى القادة الكبار. المهم الآن هو توجيه اللوم إلى ذلك الآخر الذى يهمّ بأن يغزونا أو يهددنا. ليست الحرب آخر الملاذات بعد استنفاد جميع المحاولات الدبلوماسية والسياسية. التهديد باستخدام القوة هو الراهن، وما على الآخرين إلا الانصياع. هل تنشب الحرب أو لا تنشب؟ ذلك أمر متروك للقدر. بالتأكيد سوف يكون هذا «الآخر» هو مسبب الحرب. السبب هو أنه لم يرضخ للأوامر. لقد فعلت الآلة الذكية فعلها، وقامت وسائل التواصل الاجتماعى بواجباتها. هى أفرغت الأدمغة من عقولها. أيّ قرار من السيد الحاكم مقبول. هو انتخب من أجل ذلك. لا يهم إذا كان على حق أو خطأ. لقد تحولوا إلى قطيع، بعد أن أفرغت أدمغتهم من محتوياتها العقلية.
***
تعبيران يكشفان بجلاء ما نتحدث عنه: «الحقائق البديلة» و «الواقع الافتراضى». يمكنك أن تقرر مصير العالم بناء على فرضيات تصوغها أنت. أنت تقرر الحقيقة وأنت تقرر الواقع. الحقيقة والواقع ينبعان من رأسك، الفارغ أساسا. الحقائق الموضوعية. الواقع الموضوعى، كل ما هو موجود خارج الذات باستقلال عنها لم يعد موضع بحث. مع انتشار الآلة الذكية يتراجع التواضع لدى الذات. الذات هى تلك التى تصنع فى الغرف التى تدير منصات التواصل الاجتماعى. من يملك هذه المنصات يملك الذات ويملك أقوى الأسلحة ويستطيع فرض نفسه على العالم. هو يفترض الحقيقة ويصنعها. هو يفترض الواقع ويصنعه. هو يصنعنا ويأمرنا ويسيّرنا.
لا بد من التشاؤم عند التفكير فى مصير البشرية. تحولت الحداثة إلى ما بعد الحداثة. تحولت الديمقراطية من السياسة إلى الأمر ورفض التسويات.
النص الأصلي