بينما ينشغل بعض الرأى العام فى مصر، بظواهر من عينة معركة «حمو بيكا، ومجدى شطة»، أو بمعايرة جمهور الزمالك لمشجعى الأهلى على الخسائر الأخيرة أمام «الترجى» و«الوصل»، ينشغل الرأى العام فى دولتين إفريقيتين بقضايا أخرى.
قبل أيام، نقل لنا الإعلام التونسى وقائع أكبر إضراب عام للبلاد منذ 2013، فيما تبث وكالات الأنباء الإثيوبية أخبار التغييرات التى تجرى فى بنية النظام الحاكم، والتى أتت برموز نسائية معارضة من المنافى والسجون لتتولى مناصب رفيعة فى الدولة.
قبل شهور قليلة من الانتخابات الرئاسية التونسية المقرر إجراؤها فى 2019، وعلى وقع تململ الطبقات الأكثر عوزا من موظفى الحكومة دعا «الاتحاد العام للشغل» التونسى إلى إضراب عام، للمطالبة برفع أجور الموظفين لتتناسب مع ارتفاع الأسعار، واحتجاجا على محاولات الحكومة التونسية خفض فاتورة رواتب القطاع العام استجابة إلى شروط صندوق النقد الدولى الذى اتفق مع الحكومة على برنامج قروض يبلغ نحو 2.8 مليار دولار.
صباح الخميس الماضى أغلقت مدارس وجامعات تونس أبوابها وأضرب العاملون فى المستشفيات العامة والوزارات، بعد أن أعلن «اتحاد الشغل» فشل مفاوضات زيادة الرواتب مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ونزل آلاف المتظاهرين إلى الشوارع فى عدة مدن رافعين لافتات «لا خوف.. لا رعب.. السلطة ملك الشعب»، و«الزيادة حق مش مزية».
غطى الإعلام التونسى وقائع الإضراب والتظاهرات، ونقل وجهة نظر المضربين وقادة «الاتحاد» وردود الحكومة.
اللافت أن أحدا لم يتهم قادة الإضراب والمشاركين فيه بأنهم يستهدفون إسقاط الدولة أو أنهم مدفوعون من حزب النهضة «إخوان تونس» لإثارة القلاقل قبيل الاستحقاق الرئاسى، وبالطبع لم تشهد المظاهرات اشتباكات تذكر.. أوصل المتظاهرون رسالتهم ومضوا، وأكدت الحكومة على الحق فى التظاهر السلمى ودعت لاستكمال المفاوضات مع «الاتحاد».
تجربة الانتقال الديمقراطى فى تونس، رغم تعثرها بعض الشىء، ألا أنها تمضى فى طريق بناء الدولة الحديثة، «تداول سلمى وانتقال هادئ للسلطة، مجتمع مدنى قوى يعرف مكامن قوته، ونظام منتخب يمثل الشعب ويعرف حدود صلاحياته ومسئولياته»، التجربة إجمالا تشعرنى شخصيا بالغيرة، فالأشقاء التوانسة يحاولون العبور ببلدهم إلى بر الدولة التى خرجوا قبل 7 سنوات ليؤسسوها على أنقاض نظام بن على.
أما الأشقاء فى إثيوبيا فتجربتهم تستحق التوقف، فبعد عقود من الاستبداد السياسى، وسيطرة طائفة واحدة على السلطة، ومظاهرات أدت إلى مقتل المئات واعتقال الآلاف، صعد آبى أحمد الرجل المنتسب إلى عرقية «أورومو» إلى رئاسة الحكومة مطلع العام الحالى، ليضع خطا فاصلا بين إثيوبيا التى عانت من تمييز وتسلط وانتهاك لحقوق الإنسان، وإثيوبيا جديدة تنشد تطبيق الديمقراطية التعددية، وإرساء نظام يحتضن جميع القوى والعرقيات، وتمضى فى طريق إصلاح اقتصادى يؤهلها لأن تكون الدولة الأسرع نموا فى إفريقيا.
بعد انتخابه بأسابيع فتح آبى أحمد باب الحوار مع قادة 52 حزبا قوميا وإقليميا، أشرك الجميع فى مناقشة قضايا الحكم والمستقبل السياسى لإثيوبيا، وشدد خلال الحوار على أن «تطبيق ديمقراطية تعددية، تدعمها مؤسسات قوية تحترم حقوق الإنسان وسيادة القانون هو المخرج الوحيد لأزمات البلاد».
لم يكتف آبى بالكلام، بل حوّل وعوده إلى مجموعة من الإصلاحات الديمقراطية التى تعزز من استقرار بلاده.. أطلق سراح آلاف السجناء السياسيين، وأوقف الرقابة على الإعلام ورفع الحجب عن مئات المواقع الصحفية، وأنهى حالة الطوارئ، وفتح قنوات اتصال مع المعارضة فى المنافى، ورفع جماعات المعارضة السياسية من قوائم الإرهاب، وقدم عددا من المتورطين فى قضايا تعذيب منهم قادة بالجيش والاستخبارات والشرطة إلى المحاكمة بعد تقارير لمنظمات دولية عن تعذيب فى سجن «أوغادين».
بالتزامن مع الإصلاحات الداخلية انتهج آبى سياسة «تصفير الصراعات الخارجية» فأنهى حالة الحرب التى استمرت 20 عاما مع إريتريا، وسعى لفتح صفحات جديدة مع الدول التى توترت علاقتها مع إثيوبيا.
الخلاصة أن آبى أحمد وعلى الرغم من حداثة سنه فإنه أدرك أن احتواء الخصوم قبل الشركاء وإبعاد الأمن عن السياسة وإقرار نظام للعدالة سيمكّن بلاده من بناء ديمقراطية تعددية، التى هى بداية طريق الخلاص لبلد كان قاب قوسين أو أدنى من حرب أهلية.
التجربة الإثيوبية لم تشعرنى بالغيرة فقط، بل تشعرنى بالحسرة أيضا، وعلى كل الدرس لا يزال قائما، وفرصتنا فى التعلم قائمة أيضا، إن أخلصنا النوايا.