كلما نتصفح كتاب المهندس عادل واسيلى «رائحة الفراغ»، الصادر أخيرا عن دار ميريت والذى يضم نحو 120 صورة ملونة عن القاهرة فى زمن الكورونا، وتحديدا عام 2020، نشعر إلى أى مدى نحن بصدد رصد مرحلة هامة من تاريخ المدينة. حين سيكتشفها اللاحقون غالبا ستكون مجرد ذكرى بعيدة، سيحاول بعض الناس فهم كيف مرت هذه الأيام على البشرية وستساعدهم الصور على تخيل ذلك بعد انتهاء الأزمة بسنوات قد تطول أو تقصر، ولكن أيضا سيجدون بين أيديهم ما يسجل ملامح مدينة ربما لن تعد بهذا الشكل، فمعالمها تُطمس وتتغير بسرعة كبيرة، وبالتالى هى نفسها قد تصبح ذكرى بعيدة تترك مرارة فى الحلق.
لم يخش المصور الفوتوغرافى أن يترك فى أعماله مساحة للفراغ، بإحساسه المرهف استمع لضجيج هذا الأخير كما ورد فى توطئة الكتاب، واشتم رائحته، وبما أنه كان دوما متحيزا للناس، فقد أدرك على الفور أنه «لا مكانة لمكان إلا بأهله». تختلف هذه الصور عن أعماله السابقة التى انشغلت بحياة البسطاء وكانوا هم أبطالها الحقيقيين، فهذه المرة جاء المكان فى الصدارة: شوارع القاهرة وقد خلت من الناس، وترك هؤلاء مساحات واسعة من الفراغ نلاحظها بوضوح فى الصور. لم يكن شاغله الشاغل هو ملء هذا الفراغ مثل الرسام الذى يسعى لوضع إبداعه الخاص على سطح اللوحة الأبيض، بل تعامل واسيلى مع الفراغ كعنصر رئيسى فى تكوين الصورة، قَبَلَ وجوده بوصفه حقيقة واقعة فرضت حضورها على الأماكن التى تجول فيها خلال فترة الحظر.
•••
الخوف كان سيد الموقف، خوف من عدو مجهول دفع السكان إلى التزام بيوتهم، وأراد هو تصوير هذه اللحظات النادرة التى كانت فيها القاهرة، كمدن عديدة حول العالم، أقرب لمشاهد أفلام الخيال العلمى أو أدب الديستوبيا. راح يمشى بغير هدى، ويسجل ما يرى بعدسته، ثم ينشر صوره على مواقع التواصل الاجتماعى فيحاول الأصدقاء التعرف على الأماكن التى صارت غير مألوفة وهى خاوية. لاقت مبادرته تجاوبا، ما شجعه على جمع بعضها فى هذا الكتاب، ثم عرضها الأسبوع الماضى فى أتيليه القاهرة.
المهندس الخمسينى الذى اكتشف عشقه للتصوير قبل سنوات، فتعلمه بمجهوده الخاص ومارسه إلى جانب مهنته الأساسية ونشاطه فى المجال السياسى، نجح فى إظهار جمال المعمار والطابع الفريد لبعض المناطق: شوارع وسط البلد، ميدان العتبة وبواكى كلوت بك، مصر الجديدة، الموسكى والجمالية، إلى ما غير ذلك. بيوت ذات طراز معمارى خاص يجاورها مبنى أسمنتى أصم.
المساحات واسعة والعمارات شامخة وعالية، وكل عمارة لها نمط وشخصية والمارة نادرون، هذا إن وجدوا. قطط تعبث بالشارع، لافتات مكتوبة بخط أنيق. الهدوء مخيم، نستمع لموسيقى الدنيا والسماء، والهواء يسرى ناعما فى حرية. لا شىء يعكر قدسية السكون المستتب، لكنه سكون مريب.
شاركنا عادل واسيلى من خلال الكتاب تأملاته حول المدينة، حيث اكتمل الفراغ بالصمت. تقف شجرة وحيدة فى الشارع وقد خلت من أوراقها وكأنها تعدنا بربيع آتٍ. البضائع المغطاة فى سوق العتبة أشبه بالتوابيت. ما قد نعتبره نحن استراحة محارب وسط الزحام، فرصة لكى نتنفس ونعيد اكتشاف المدينة، دفع المصور نحو ارتباط متزايد بالناس، وتجددت قناعته أن وجودهم هو سر المكان، أيقن أن «الزحام هبة تعطى لبعض المدن طابعها وتمنحها قيمة ينزعها الصمت، وتنتمى القاهرة إلى هذه النوعية التى تكتسب جمالها من سياق متكامل من الصعب إعادة ترتيبه ليبدو منزوع الدسم»، كما صرح فى أحد أحاديثه الصحفية.
•••
هذا لا يمنع أننا توقفنا معه كثيرا عند جماليات المدينة وسحر الأماكن المهجورة وشاعريتها، ففى القاهرة هناك رائحة للتداعى أقرب للعطر المعتق، تراجيديا خاصة بما تبقى من آثار الماضى. طبقات فوق بعضها البعض تحمل ذاكرة مصر والعالم العربى، كما أشار الباحث والمثقف الكبير نبيل عبدالفتاح فى مقدمته البديعة للكتاب التى تناول فيها تحولات هذه المدينة المربكة وعلاقتنا الشائكة معها، فقد ظهرت من خلال الصور «وكأنها تنفض عنها ثقل التفاهة والسرعة والضوضاء». أحيانا تزحف الأطلال ببطء على المشهد، وأحيانا تكون التطورات عنيفة وأكثر دراماتيكية.