لا أسافر دون أن أحمل فى حقيبتى كيس الزعتر أو علبة الحلويات بالفستق حين أغادر مدينة عربية، أو الشوكولاتة أو مواد لصنع الخبز والكعك حين أعود من دول غربية، فترانى أمر فى مطارات العالم ورائحة البهارات تفوح منى، أفتح شنطة يدى فيقع منها كيس الفستق وتتناثر حباته أمام أعين المسافرين الواقفين ورائى فى الطابور. يتململ بعضهم ويبتسم آخرون بينما ينظر إلى موظف المطار رافعا حاجبيه بحركة غالبا ما تعبر عن قلة صبره حيال تلك المسافرة التى ستتسبب بتأخير تدفق المسافرين بسبب حركة متهورة منها أفسدت رتابة يومه الملىء بالضجر وغياب المفاجآت.
***
قبل السفر بأيام أبدأ بإعداد لائحتى: بماذا تشتهر المدينة التى سأزورها؟ سوف أشترى ولو حفنة من ذلك حتى أتمكن لاحقا من التعليق بجدية عما إذا كان زعفران طهران أنقى من زعفران أصفهان مثلا. أفرد مقتنياتى على الطاولة حتى أتمعن فى حجمها وأنا أخطط لوضعها فى الشنطة، فكأننى مهندس معمارى يدرس أفضل طريقة يستخدم فيها مساحة ضيقة طلب منه صاحبها أن يحشر فيها عددا كبيرا من قطع الأثاث.
ألفُّ زجاجة ماء الزهر بعناية فائقة، أضع حولها أكياس القرفة والسماق فهى ستحميها إن تحركت داخل الحقيبة. أمنع علبة المعمول أن تتحرك وذلك برصِّها بين كتابين. المشمش المجفف يجلس فى طرف الشنطة فبإمكانه أن يستوعب أية ضربة خارجية يقصدها عامل المطار أو لا يقصدها، وبذلك يقى زجاجة ماء الزهر من الضربة. لى فى كل مدينة أزورها محل حلويات مفضل، فأنا عادة ما أقوم بعملية مسح سريعة فى أية مدينة لمحال الحلويات. فكيف لى ألا أزور الرجل السبعينى الذى لا يتذكرنى ولكننى أتذكره منذ أكثر من عشرين سنة، فهو يملك محلا لبيع الحلويات قرب الجامعة التى درست فيها، وكان لمحله فى ذلك الحين مكانة عالية فى الحى، قبل أن تنتشر محال الحلويات بأشكالها وديكوراتها الجديدة ونكهاتها الصناعية وورق تغليفها الحديث الملون. أدخل إلى المحل فى كل زيارة لى إلى الحى، أسلم على الرجل فيبتسم بحفاوته المعهودة التى يقصد بها أن يشعر أى زبون بأنه مرحب به، حتى لو أنها زيارة الزبون الأولى أو الأخيرة إلى المحل. أطلب تشكيلة حلويات لم تتغير كثيرا منذ أن كنت أتردد على الدكان الصغير. فى الحقيقة لا شىء قد تغير فى المكان أصلا فالرفوف كما هى والصوانى هى الأخرى فى مكانها لم تتحرك.
***
حقائبى أشبه بدكان بقال متحرك مع صاحبه، أستخدم فيها ثيابى فقط لملء الفراغات بين ما أحبه من طعام وحلويات ومكونات أساسية سوف أستخدمها فى الطبخ فى بلد الوصول. أضحك فى سرى على ما قد يقوله أى موظف فى المطار إن فتح حقيبتى. أتخيله ينظر بريبة إلى الأكياس الشفافة التى تحتوى بداخلها على بهارات مختلفة. قد يعطس الموظف إن اقترب كثيرا من أشيائى وحاول فهم محتوى أحد الأكياس. «ما هذا يا أستاذة؟» يسأل بحزم. «فلفل أسود طحنته جدتى فى طاسة مصنوعة من الحجر واستخدمت يد الهاون لا آلة الطحن»، أجيب بجدية. يضع الكيس مكانه ويرفع كيسا آخر. «وهذا؟» يسأل. «هذه لبنة من حليب الماعز، نشفتها أمى فى كيس من القماش الأبيض حتى تصلبت، ثم صنعت منها كرات من اللبنة الجامدة وغمرتها فى زيت الزيتون كما ترى. نحن نأكلها طوال السنة مع الخبز مصحوبة بكوب من الشاى»، أجيبه بمهنية أستخدمها عادة فى ساعات الدوام.
فى حقيبة يدى أحمل القهوة، حتى لا تطغى نكهتها على الحلويات داخل شنطة السفر. أفتح حقيبتى فى الطائرة لأخرج منها كتابا أو قلما فأسمع صوت والدى وصديقه يتكلمان فى السياسة مستخدمين كلمات مألوفة لرجال جيلهم. النكسة، إسرائيل، أبو عمار، جريدة الحياة... فى الكرسى الضيق فى الطائرة، تفوح رائحة القهوة من حقيبتى وأنا أفتحها لأطمئن على أن محتوى الكيس لم يتبعثر فوق باقى الأشياء.
***
أغلب الظن أننى أنقل معى أجزاء كاملة من حياتى، بل وأنقل أشخاصا أحبهم من خلال نقلى للطعام أثناء سفرى، وذلك بغض النظر عن وجهة السفر. يستخدم الأمريكان عبارة «الطعام المريح» بالإشارة إلى نوع من الطبخ معروف فى الولايات الجنوبية، والمرتبط فى رمزيته بفكرة اجتماع العائلة وبالأوقات الحميمة واللحظات الدافئة. وقياسا على ذلك، فإن رائحة القهوة النفاذة ونعومة ملمس كرات اللبنة الغارقة فى الزيت، كما علبة المعمول الملفوفة بعناية فى مطبخ والدتى لتعبر معى المحيط، هى كلها أجزاء من «الطعام المريح» خاصتى، أجزاء من حياة مبعثرة بسبب الخيارات المهنية والمواقف السياسية والظروف العائلية، تجتمع كلها وقت المغرب حين يأتينى من بعيد صوت تلك المدينة التى لم أعد أزورها، فأفتح علبة اللبنة، وأخرج منها كرة واحدة أضعها فى طبق من الخزف المزخرف، ثم أضع بضع وريقات من النعناع الطازج فى إبريق الشاى، وأنظر إليهما وكأنهما لوحة فنية اختزلت الوطن والحنين، والرغبة فى التأكيد على هوية لم أعد أصلا أعرف مكوناتها بشكل واضح، لكنها قطعا هوية تحتوى على صوت وروائح مدينة تركت فيها قطعة من قلبى، واستبدلتها بكرات من اللبنة وكيس من الزعتر الحلبى الذى يكاد أن يصرخ «أنا من هناك».