منذ طفولته عانى الأستاذ محمدين عبدالرسول من الهواجس. ولد محمدين لأسرة متوسطة عرف عنها التدين والالتزام. فى المدرسة كان مجتهدا ولكنه كان يعانى من أقرانه الذين تفننوا فى اختراع الأسماء والإشارات التى يسخرون بها من كونه مسلما. فهو تارة عضمة حمرا»، وتارة أخرى «بوفتس». كما أنهم ابتدعوا إشارة بأصابعهم يرسمون بها علامة الهلال من خلف ظهره ثم يتبادلون الضحكات.
فى سنواته الأولى فى المدرسة لم يأبه أو بالأحرى لم ينتبه لما يجرى حوله، وعندما نما وعيه أدرك أن دينه هو المستهدف من كل هذه السخرية. شكا للمعلمة فابتسمت ولم تفعل شيئا فعاد دامعا للمنزل ليسأل أباه: لماذا يسخرون من دينى؟ ألم أولد مسلما فيما ولدوا هم مسيحيين؟ أخذه أبوه فى حضنه وربت على ظهره وهو يقول: طلع الهواجس دى من دماغك. الحاجات دى مالهاش علاقة بالدين. هم بس شايفينك رفيع وضعيف. لما تاكل كويس وتتخن محدش هيتريق عليك.
فى الجامعة اختلف الأمر. كان طبيعيا أن يكون أغلب الطلاب من المسيحيين فى بلد غالبيته مسيحية. كان لمحمدين بعض الأصدقاء الحميمين من المسيحيين إلا أن «الشلة» التى كان يستريح معها كان أغلبها من المسلمين. المدرسون ورؤساء الأقسام كانوا فى الأغلب مسيحيين، ولم يك من النادر أن يعلق أحدهم على اسمه دعابة أو سخرية. لا ينسى محمدين ما حدث فى لجنة الشفوى فى سنته الثانية عندما ضحك الممتحن لدى سماع اسمه وقال: محمدين؟! يعنى أهلك لقوا ان محمد واحد مش كفاية فسموك محمدين؟! يا بنى ده محمد واحد يسقطك.
قالها وانهار ضاحكا. رسم صاحبنا ابتسامة مفتعلة على شفتيه، لكنها زالت تماما عندما وجد أنه نجح بالكاد رغم تفوقه المعروف والواضح فى هذه المادة.
عندما أسر بخواطره لصديقه الصدوق بطرس قال له: يا محمدين طلع الهواجس ده من دماغك. الدين مالوش علاقة بالحكاية. المسألة مش اضطهاد دينى ولا أى حاجة من الكلام ده. ما احنا طول عمرنا اخوات وبنتكلم عادى يا أخى. النظام التعليمى فاسد. والدنيا كلها محسوبية ورشوة زى ما انت عارف.
أخرج محمدين الحكاية من دماغه وعاش يصارع هواجسه فى بلد أقصى فيها المسلمون عن المناصب الحساسة والمواقع المهمة فى الدولة. وعندما تخرج بتقدير مقبول لأسباب راودته هواجس فى أن لها علاقة بدينه، قرر أن ينتقل لمدينة العريش حيث يعيش خاله وافتتح متجرا لبيع الأجهزة الكهربائية.
اختار محمدين أن يعيش داخل فقاعة سميكة تعزله حتى عن هواجسه. اعتاد تجاهل صرخات القسس فى برامج التليفزيون وعلى منابر الكنائس وهم يسبون «المحمديين» الكفار بينما تؤمن الجموع الهادرة على كلامهم. امتلأت الأرصفة بالكتب التى تحكى عن الدين الحق والطريق الواحد، وأفرد التليفزيون الرسمى للدولة مساحات واسعة للقس زكى بطرس الذی عرف بتفسيراته المدهشة للإنجيل وإثباتاته المفحمة لضلال «المحمديين» وانحراف عقيدة بدو الصحراء.
وفرت الفقاعة لمحمدين مساحة آمنة حتى ظهر تنظيم سرايا أورشليم وبدأت عمليات حرق بيوت المسلمين فى العريش التى تطورت إلى حوادث اختطاف وقتل مع تهديدات مباشرة للمسلمين بالنزوح عن المدينة وإلا كان الذبح مصيرهم ومصير أولادهم.
فى فجر آحد الأيام هاجم مسلحون منزل خال محمدين. فصلوا رأسه عن جسده أمام عائلته وأكدوا لهم أن هذا سيكون مصير كل مسلم يتردد فى الرحيل. فشل محمدين كما فشل غيره من المسلمين فى المدينة فى الحصول على رد من المسئولين عما ينبغى فعله، فجمع العائلة ونزح بهم إلى مدينة الإسماعيلية حيث لم يجد مأوى سوى ركن فى زاوية بأحد المساجد.
كان محمدين حانقا ومتعبا وحائرا. جلس على مقهى بالقرب من المسجد وإذا برجل يقترب ويحتضنه بحميمية. فتح عينيه فوجد نفسه أمام بطرس صديقه الصدوق من أيام الجامعة. قص محمدين حكايته بعينين دامعتين. أطرق بطرس واجما ثم قال: انت لسه برضه بتقول اضطهاد دينى؟! مش شايف اللى بيحصل فى البلد؟ الناس مكوية بنار الفساد والأسعار، وانت ماشى على أجندة الخونة وبتقول لى اضطهاد دينى!!
وتركه وانصرف.