خلال السنوات الماضية، دخلت أحزاب وقوى المعارضة المصرية ــ خطوة وراء خطوة ــ حالة من «البيات الشتوى»، لم يعد لها وجود مؤثر فى صنع القرار عبر تفاعلات اجتماعية ــ سياسية أو حتى عبر مؤسسات الدولة كالبرلمان، ولم تعد تمتلك ثقلا فى الشارع، خريفها السياسى طال أكثر مما ينبغى، حتى وصل الأمر إلى أن فكرة المعارضة نفسها أصبحت وكأنها عبء ثقيل على نظامنا السياسى.
تحت فكرة ضرورة الاصطفاف الوطنى لمواجهة تيارات الإرهاب أو حل الأزمة الاقتصادية أو منع انهيار الدولة، تم تقليص دور المعارضة، وتضاءلت أمامها مساحة الحركة بمرور الوقت، والتى تواكبت مع إجراءات حكومية متتابعة استهدفت خفض سقف الحريات التى كانت ممنوحة أو متاحة أمام الصحف ووسائل الإعلام، وسيطرة السلطة التنفيذية على جميع مراكز صنع القرار فى عودة فعلية لنظام الحزب الواحد بعد أفول عصره الذهبى مع ثورات التحرر الوطنى فى الستينيات من القرن الماضى فى العديد من دول العالم الثالث.
كان من الممكن أن يحدث هذا الاصطفاف الوطنى عبر آليات وإجراءات ديمقراطية، وببرنامج إنقاذ وطنى تشارك فيه كل الأحزاب بإرادتها الحرة، لكن ما حدث كان تهميشا لكل الرؤى المختلفة مع السلطة التنفيذية، على الرغم من أن الدستور ــ حتى فى حالة إقرار التعديلات المرتقبة عليه ــ يشدد على محورية دور المعارضة فى بنية نظامنا السياسى وفى طبيعة الفلسفة التى تحكمه، فالمادة «5» منه تؤكد أن نظامنا السياسى يقوم على التعددية السياسية والحزبية والتداول السلمى للسلطة، والمادة «15» تصون حق الإضراب السلمى، والمواد من «51» حتى «77» توضح المجال الواسع للحقوق والحريات العامة الممنوحة للشعب، سواء ما يتعلق بقدسية الحفاظ على كرامة المواطنين، واعتبار التعذيب جريمة لا تسقط بالتقادم، وصون الحريات الشخصية ومناهضة التمييز والكراهية، وحرية الفكر والاعتقاد والتعبير عن الرأى بالقول والكتابة، وكفالة حرية الصحافة وحظر فرض أى رقابة من أى نوع عليها أو مصادرتها أو إغلاقها، مع فرض «رقابة محدودة» عليها فى زمن الحرب، وحق التظاهر وتنظيم المواكب وجميع أشكال الاحتجاجات السلمية، مع ضمان حق تنظيم الأحزاب السياسية بمجرد الإخطار، وكفالة حرية العمل النقابى واستقلاليته.
كل هذه النصوص الدستورية غابت ــ أو بمعنى أصح غيبت ــ عن المشهد السياسى، صار الدستور فى واد وحياتنا السياسية فى واد آخر، لم يعد هناك نص حاكم يفصل بين السلطة وفصائل المعارضة، صارت الحكومة هى الخصم والحكم فى كل قضايانا المهمة، حيث لم يعد للصوت الآخر الذى تمثله المعارضة وزن فى معادلة الحكم فى مصر!
المفترض أن تكون المعارضة هى قوة التوازن بين السلطة والمجتمع، وهى أيضا فى الفكر السياسى للديمقراطيات الحديثة جزء لا يتجزأ من النظام السياسى، تلعب مع الحكومة دورين مكملين لبعضهما البعض، وهى المنوط بها قيادة عمليات التصحيح الذاتى لأى قرارات أو إجراءات أو حتى انحرافات لهذا النظام السياسى، وصولا فى نهاية المطاف إلى توافق شعبى يحفظ استقرار الحكم، ويمنع الحكومة من الوقوع فى براثن التسلط والاستبداد.
فى كل المفاهيم السياسية الإصلاحية، أصبح الحفاظ على الدولة من الانهيار، وممارسة المعارضة لحقوقها الدستورية فى القيام بأنشطتها المختلفة وجهين لعملة واحدة، تغييب المعارضة أو إسكات صوتها وشل حركتها، سيفضى إلى نظام سياسى أعرج، لن يتمكن فقط من تحقيق وظائفه بكفاءة وفاعلية، ولكنه وهو الأهم سيخصم من شرعيته بما يفتح المجال واسعا أمام حركات غضب اجتماعى ستكون فوضوية فى حركتها، وعنيفة فى مساراتها بشكل لا يبدو أن أحدا فى الحكومة الآن يدرك خطورتها، ولا المدى التى يمكن أن تصل إليه!.