طَلْــــعَة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:31 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طَلْــــعَة

نشر فى : الجمعة 25 فبراير 2022 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 25 فبراير 2022 - 9:05 م

شدَّ الرجلُ حزامه ورفع قدمًا أتبعها بالأخرى، ثم جعل يرتقي في سلاسة ويُسر؛ كأنه يقطع طريقًا ناعمًا ممهدًا سهلًا، لا عوائق فيه؛ إلى أن وصل لأعلى نقطة في جذع النخلة، فراح يُعمِل نصلَه، ويجتثُّ السعفاتِ الذابلة الصفراء ليُسقِطها أرضًا، والسكانُ يتابعونه من شرفاتِهم؛ بعضهم مُنبَهِر فاغر الفاه، والبعضُ الآخر يُعطي الرَّجلَ أمرًا يعقبه أمرٌ، والرَّجلُ لا يلقي إلى أيهم بالًا؛ إذ هو مُنهمِكٌ في عملِه مُستغرِقٌ في أدائِه، يَملِك مِن الحنكةِ والمَهارةِ ما ليس عند واحد مِن آمريه.

• • •

طلعةُ النخلِ لها أهلها؛ حرفةٌ يتقنها الواحد منهم فيخطف بها الأبصار، يغامر بنفسه في ثقةٍ وتمكُّن، ولعله إن فَقَدَ أيَّهما ساقطٌ في التوّ واللحظة. أبكى الفنان عبدالله محمود من شاهدوه في فيلم طالعِ النخل الذي أخرجه محمد فاضل للتلفزيون وعُرِضَ بأواخر الثمانينيات؛ فالشابُ النحيلُ الذي يصادق النخيلَ ويناطحه في الهواء؛ مريضٌ، والمرضُ عضال ينهش كبده تدريجيًا ويأتي عليه، والجسد المَرِن المَمشوق قد استحال مع طول الانتظار كومةً من العظام.

• • •

الطلعةُ هي المرةُ الواحدة من الفعل طَلَعَ؛ أي صعد لأعلى، وأشهر الطلعات التي ترد على البال ما ذُكِرَت الكلمةُ هي الطلعة الجوية الأولى، أو الضربة التي نفذها سلاح الطيران المصري؛ مُفاجئًا العدو، مُزلزِلًا حصونه، ذاهبًا بهيبتِه إلى غير رَجعَة.

• • •

إذا قيل "كل طلعة شمس" عنى القائلُ كلَّ يومٍ جديد، وإذا وُصِفَ مَجيءُ امرأةٍ بأنه كطَلْعةِ القَّمر فالمعنى أنها جميلةٌ، وجمالها يُضيء أينما حلَّت، أما عن الطلعة الأمريكاني فهي حركة مفاجئة وجريئة بالسيارة، يزمجر معها المحرك وتصر الإطارات جراء احتكاكها بالأرض في وجود المكابح، وإذا بالسيارة تنطلق في سرعة وجموح، وربما كان المسمى مستقى من تلك الصفات، فعلى مر العقود، اتسمت مواقف كثيرة للإدارة الأمريكية على اختلاف رؤسائها بشيء من الرعونة والجنوح إلى الظهور.

• • •

إذا وصف شخص آخر بأنه تسمر كالحمار في مطلع؛ فإشارة لصعوبة تواجهه، ويتعسر معها المضي قدمًا. كهذا تكون حال الدابة وهي عاجزة عن التحرك مع ميل الطريق وعجزها عن صعوده، لاسيما إن أثقل بدنها حملٌ لا تطيق معه الوقوف على سيقانها.

• • •

في زمنٍ سابق كان استطلاع الهلالِ طقسًا يحظى بالاهتمام. ينتظره الصغار كما يتأهب له الكبار؛ فإذا ثبتت الرؤيةُ بنهاية شهر شعبان وتأكَّدت، سادت أجواءٌ احتفالية وانطلقت الأهازيجُ والأغاني ترحّب بقدوم رمضان. كانت طلعةُ الهلالِ مصدرَ فرحٍ وإيذانًا بلمَّة عائليةٍ يومية؛ تعذَّر في وقتنا الحالي أن تتمَ دون مناسبةٍ قاهرة.

• • •

ظلَّت أمي إلى وقتٍ قريب تتصوَّر أن طلعةَ المُقطم فيها مُخاطرة، وأن السقوطَ وارد والحذرَ مطلوبٌ؛ فما إن شاءت الظروفُ أن تزور مكانًا على الهَضبةِ، حتى تهاوت الصورةُ الذهنيةُ المؤرقة، واستغرقها الضحكُ مِن خيالٍ بعيد؛ أحبَّت المنطقةَ ولم يعد الطلوع مُخيفًا.

• • •

طلعةُ المقابر في الأعياد تقليد؛ لا يزال يتبعه كثيرون مِمَن توارثوا عن الآباءِ والأجدادِ طقوسَ ما بعد الموت. لا تمثل زيارةُ الموتى فعلًا حزينُا مُعظم الأوقات، إنما تصحبها علاماتُ بهجةٍ لا تخطئها عين. ثمَّة أطفالٌ وورودٌ ومَخبوزاتٌ، وثمَّة اجتماع على مَحَبَّة شخصٍ انقطع وجوده الملموس من الحياةِ، فيما ظلَّ مكانه محفوظًا في القلوب، يحرضُها على الفعل. الصغار يلعبون والنساءُ يتبادلن الأخبارَ وينفثن ما في الصدور، ويتكفَّل البكاءُ بإخراج ما تبقّى والمُحصلةُ النهائية: عودةٌ أصفى نفسًا وأنقى.

• • •

أشياءٌ كثيرة يمكنها أن تطلع مجازًا؛ هناك من يؤكد أن عفريتًا طلع له في الظلامِ أو في دورةِ المياه أو بينما يسير في طريقٍ مَهجورةٍ، وهناك مَن طلع لها في البختِ عريسٌ تبيَّن بعد فوات الأوان أنه لا يلاقي الشروطَ، ومَن طلعت عينُه ولم ينل رغم التعب هدفَه المَنشود.

• • •

الطالع هو اسمُ الفاعل من الفِعلِ طَلَعَ. هناك مَن هو "طالع فيها"؛ والقصد أنه مُتعالٍ، مُغتَّر، يرى نفسَه الأعظمَ والأجدرَ، ويُهون من شأن الآخرين. هناك أيضًا امرأة "طالعةُ من بيت أبوها"؛ وهي التي توشك على الانتقال من مَنزِل العائلة إلى مَنزِل الزوجية، ولا يمكن والحديث عن الطالعات والطالعين، أن تغيبَ عن البال أغنيةُ يا طالع الشجرة هات لي معاك بقرة. كلماتٌ فولكلورية حفظناها صغارًا، ورددناها دون أن يسألَ أغلبُنا عن معناها الغامض الذي استوعبته خيالاتِ الطفولة، ووظفته ببراءة، ووجدت له معنى لا يفسر بالضرورة قصدَ المُؤلف، ولا يصلُ إلى المغزى السياسيّ المَطروح. كتب توفيق الحكيم مسرحيتَه بهذا العنوان؛ وحمَّلها إسقاطاتٍ بلا حدود.

• • •

الشجرةُ والبقرةُ والملعقةُ المَكسورةُ وكلبُ العربِ المَذبوح؛ جميعها رموزٌ حيَّةٌ حاضرةٌ، لم تبل بعد ولا جرَّدها الزمنُ من دلالاتِها، وعلى دينِها الطالع والنائِحةُ؛ يتجدَّد وجودهما في المَشهَد المسرحيّ بجدارةٍ، ويُبعثان مِن تحتِ رمادِ العَجزِ على امتداد العصور.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات