بمقارنة سريعة، يمكنك أن تكتشف بسهولة أن هناك «مسافة أيديولوجية» كبيرة بين البرنامج الانتخابى للمشير عبدالفتاح السيسى، الذى كشف عمرو موسى خطوطه الرئيسة منذ يومين فى تصريحات لوكالة أنباء الشرق الوسط، وبين تصريحات وتسريبات السيسى خلال الأسابيع الماضية، التى انتقد فيها بحدة استمرار الدعم للسلع الأساسية، مطالبا الفقراء ومحدودى الدخل بمزيد من التقشف، داعيا التضحية بجيل أو جيلين حتى تتحسن أوضاعنا المعيشية والاقتصادية، ويستمتع بها أحفادنا فى الجيل الثالث!
ففى حين تبدو تصريحات السيسى السابقة مفرطة فى يمينيتها، يبدو برنامجه الرئاسى إصلاحيا إلى أبعد مدى، يكاد يقترب من حدود الفكر الاشتراكى كما تتبناه قوى ناصرية وقومية ويسارية عديدة، منها مثلا حزب التجمع أو حتى الحزب الشيوعى المصرى، خاصة فى تأكيد هذا البرنامج على اتباع سياسات تحد من الفقر، وتحقق تحسنا سريعا وملموسا فى جودة الحياة لجميع المواطنين ودعم الطبقة المتوسطة ومحاربة الفساد وإصلاح الجهاز الإدارى للدولة وإقامة مشروعات تنموية تتنوع بين الكبيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر، التى يستفيد منها الفقراء والمهمشون، بما يحقق مطالب «الثورة الوطنية الديمقراطية»، التى تتبناها هذه القوى!
قد يكفل هذا البرنامج تأييد هذه القوى للسيسى فى الانتخابات المقبلة، وقد يوفر له شرعية جديدة مختلفة عن نظامى مبارك والسادات، لكن هناك معارك سياسية طاحنة تنتظر السيسى حينما يصل إلى القصر الجمهورى، منها على سبيل المثال كيفية مواجهته مافيا الفساد وشبكة المصالح، التى تسيطر على الاقتصاد الوطنى، فى ظل موازين قوى أسفرت عن عن سيطرة 977 رجل أعمال على 25% من الدخل القومى، كما يقول الباحث الاقتصادى المرموق فاروق عبدالخالق، بالإضافة إلى كيفية مواجهة السيسى لفساد منظم داخل أجهزة الدولة سمح بأن يحصل 76 مستشارا بالهيئة العامة للاستعلامات على أجور تبلغ 150 مليون جنيه سنويا، و30 موظفا بالقوى العاملة على 28 مليون جنيه رواتب ومكافآت سنويا، وحصول موظفى ديوان عام وزراة الصحة على رواتب تبلغ 2 مليار جنيه سنويا فى حين يتسول فيه الأطباء رواتب آدمية، كما تبلغ مخالفات جهاز امن الدولة نحو 2 ونصف المليار جنيه إضافة إلى مخالفات أخرى فى مشروعات طرح النهر والحزام الاخضر تتعدى الـ21 مليار جنيه، أعلنها المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات منذ عدة أيام، فى وقت يعيش فيه 40% من المصريين تحت خط الفقر منهم 20 مليون مواطن يعيشون حياة القرون الوسطى فى العشوائيات، وتبلغ نسبة البطالة بين الشباب إلى 15%!
كل هؤلاء لن يتنازلوا عن امتيازاتهم بسهولة، سيكون بعضهم شوكة فى ظهر أى نظام سياسى جديد، ووقودا للقوى المناهضة للثورة وسندا لجماعات الإرهاب، ولن يستطيع السيسى أو أى رئيس قادم هزيمتهم بالضربة القاضية، فهم يمتلكون خبرات إدارية كبيرة، وثروات ضخمة تستند إليه عجلة الاقتصاد الوطنى، قد تفرض على السلطة الجديدة أن تمسك العصا من المنتصف، حيث تغازل الفقراء ومحدودى الدخل ببعض الهبات أو قد تعيد إليهم بعض الحقوق، لا أكثر ولا أقل!
نوايا السيسى الطيبة يشعر بها ملايين المصريين، ورغبته الصادقة فى الإصلاح كفلت له فعلا تأييد هؤلاء الملايين له، وأنا شخصيا أشعر مثل ملايين المصريين بالامتنان لهذا الرجل الذى أنقذ مصر من مافيا الإخوان ومن مخططاتهم الخبيثة، لكننى أرى أن نقطة البداية لنجاح تجربة السيسى الرئاسية مصارحة ناخبيه بالأصول الاقتصادية، التى يمتلكها الجيش والتى يتردد أنها تبلغ 40% من الاقتصاد المصرى، وكيفية الاستفادة منها فى مواجهة الفقر، ومواجهة القوى التى تحارب أى إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية..