لأسباب عديدة، بعضها يثير الأسى والآخر يثير القرف، تحول ما يفترض أن يكون نقاشا جديا حول جزيرتى تيران وصنافير لتحديد انتمائهما لمصر أو للسعودية، إلى ما يشبه السيرك السياسى، الذى يحفل بالهزل، والمكايدات السياسية قصيرة النظر، والنعرات الوطنية الضيقة، لتغطى بمنتهى الحماقة على أية أصوات جادة تحاول أن تبحث القضية بموضوعية وشفافية.
النظام فى مصر يتحمل المسئولية عن فتح أبواب هذا السيرك على مصراعيها، بعدم تقديمه أى وثيقة تاريخية معتبرة، أو حتى لها قيمة قانونية حقيقية، تؤكد وجهة نظره فى سعودية الجزيرتين، وبإعلانه المفاجئ للمصريين أنه تنازل عنهما للسعودية، ليصادر مع سبق الإصرار والترصد أى حقوق ديقراطية محفوظة لهم فى تحديد مصير أراضيهم، أما المنافقين للنظام، فحدث ولا حرج، فبعضهم دافع عن سعودية الجزيرتين أكثر من المفاوضين السعوديين أنفسهم، وبعضهم وصل بهم الفجور لاتهام القائلين بمصرية الجزيرتين بالاشتراك فى مؤامرة كونية تستهدف اسقاط الدولة فى مصر!
وحتى الباحثين الجادين فاجأونا بما لم نتوقعه منهم، فعلى سبيل المثال أكدت لنا د. هدى عبد الناصر فى حوار تليفزيونى مع لميس الحديدى منذ ثلاثة أيام أن الجزيرتين مصريتان طبقا لما قاله والدها الراحل فى مؤتمر صحفى، مشددة على أنه لا يقول «كلام مجازى»، وبعد ذلك بيوم واحد أكدت لنا العكس تماما وأن الجزيرتين سعوديتان بعد أن وقعت بين يديها بالمصادفة ما اسمتها وثيقة تاريخية تثبت ذلك، وكأنها تتهم والدها بأنه كان يصرح بما لا يعرف. أما الوزير السابق د. مفيد شهاب فقد أكد على مصرية الجزيرتين فى رسالة دكتوراه أشرف عليها فى الثمانينيات، ثم عاد ليفاجئنا منذ عدة أيام بأنهما سعوديتان، ليتركنا فريسة للحيرة بين شخصيته الأكاديمية وشخصيته السياسية، دون أن نعرف أيا منهما نصدق؟
أما الكثير من معارضى السيسى، فقد أقاموا سيركهم الخاص، اتهموا فيه النظام بالتفريط فى الأرض وبيعها للسعودية، ونظموا مظاهرات فى وسط القاهرة طالبوا فيها برحيل السيسى، وملأوا الفيس بوك صخبا وضجيجا حول الدماء المصرية التى روت الجزيرتين، دون أن يسألوا أنفسهم أى سؤال جاد حول «نقطة التماس» التى تم بمقتضاها تعيين الحدود البحرية، أو الأسانيد القانونية والتاريخية التى تثبت حقنا فيهما، ولا مصداقية الخرائط القديمة التى تم بمقتضاها ترسيم الحدود بين مصر والدولة العثمانية، لم يقدموا أى بحث سياسى ــ تاريخى حول الجزيرتين، حتى طال بعضهم حملات القبض العشوائى فى مقاهى القاهرة!
«عقلية السيرك» ضربت الجميع – إلا من رحم ربى – فى مصر، وصلت بنا درجة العبث إلى مناقشة قضايا الأمن القومى بهذا التبسيط المخل وهذه الخفة غير المقبولة، مهرجون وأفاقون ومنافقون أصبحت لهم أدوار مهمة فى رسم مساراتنا التفاوضية، وتحديد مصائر أراضينا، فى وقت تحفل فيه وسائل إعلام عالمية بتسريبات خطيرة لمسئولين فى دوائر صنع القرار فى أمريكا وأوروبا، عن رسم خرائط جديدة للمنطقة، وتوسيع كامب ديفيد ليشمل دولا خليجية، وإجراء مصالحة بين مصر وقطر، واسقاط أنظمة عربية، وإقامة تحالفات جديدة بالمنطقة تشارك فيها إسرائيل، بعد رغبة امريكا ــ التى أعلنها أوباما صراحة ــ بالابتعاد عن التورط المباشر فى قضايا الإقليم، وإعداد المسرح لمواجهة تحديات لا نعرف لها شكلا حتى الآن، هل هى إيران أم القوى والتنظيمات الإرهابية؟!
هذا السيرك المنصوب فى مصر هو الخطر الحقيقى الذى يهدد أمننا القومى، هو الذى يضرب سعينا لإقامة دولة ديمقراطية فى مقتل، وهو الذى يهدد الاستقرار الذى يسعى إليه الحكم، ويسحب من المعارضة فعاليتها ومصداقيتها، وهو أيضا الذى يفتح الأبواب أمام تفاقم أزماتنا الاقتصادية والاجتماعية، لتقذف بنا إلى بحور من الفوضى تدق طبولها فى الأفق!
محمد عصمت