إن الهدف الكامن فى نظرى وراء تدريس الأديان البشرية المختلفة والمذاهب المتعددة لبعض هذه الأديان تدريسا عقلانيا محايدا لا ينطلق من الإيمان الشخصى للمدرس أو التلميذ ــ الهدف الكامن وراء هذا هو تفتيت مبدأ الحقيقة المطلقة فى واعية التلميذ بحيث يدرك تدريجا أن الحقيقة مِلك بشرى مُشاع وليست حكرا خاصا عليه أو على أو طائفته أو ديانته أو عقيدته السياسية.. إلخ، إن الحقيقة مطلب بشرى قديم ومستمر إلى آخر الزمان ــ إن كان للزمان آخر ــ وإن كل إنسان وكل عصر يساهم بجزء يسير فى صنعها أو اكتشافها، وأن عليه هو المسلم وزميله المسيحى فى مصر وزميلهما البوذى فى شرق آسيا أن يتضافروا بقدر الإمكان تجاه هذه الغاية الكبرى. هذا التفتيت لمبدأ الحقيقة المطلقة هو فى نظرى عنصر لا غناء عنه من أجل إعداد ذهنية النشء لعيش تصالحى فى مجتمع متعدد العقائد وعالم أشد تعددا فى مذاهبه وفلسفاته الدينية والسياسية والاجتماعية.
وقد يقول قائل: أليس مثل هذا المنهج فى تدريس التربية الدينية حريّا بتمييع عقائد التلاميذ وتشتيت إيمانهم بين الديانات والمذاهب المختلفة؟ ولكنى أقول إن الجهل لا ينفع أحدا، وأن العقيدة المختارة عن علم موضوعى بغيرها من العقائد أمتن وأشد ثباتا فى قلب معتنقها من العقيدة المعتمدة على الوراثة والجهل بما عداها. وأقول أيضا إن تدريس الدين فى المدارس على أسس تعددية موضوعية محايدة سيوازنه غياب هذا التعدد من محيط الأسرة والمسجد والكنيسة. ففى الأسرة ومحل العبادة يتلقى الناشئ أسرار دينه الشخصى وتعاليمه وطقوسه وعباداته، أما فى المدرسة فيتلقى شيئا آخر وهو أن دينه إنما هو دين من الأديان، وأن فى وطنه ثمة ديانة أخرى كبرى تشابه ديانته فى أمور وتختلف عنها فى أمور، إلا أنها فى كل الأحوال تستحق الاحترام.
ويتلقى شيئا آخر أيضا وهو أن فى العالم الأرحب من وراء وطنه ثمة أديانا بلا حصر وكلها عزيزة لدى معتنقيها ويجب لها الاحترام من غير معتنقيها، بل إنه يجب أيضا أن يتعلم فى المدرسة أن ثمة فى المجتمع والعالم من لا يعتنقون دينا من الأديان وأن حقوقهم فى المجتمع يجب أن تبقى مكفولة وكرامتهم محفوظة ما داموا يؤدون واجباتهم ويلزمون قوانين الجماعة وأعرافها الأخلاقية. من هذه الموازنة بين دور المدرسة من ناحية ودور الأسرة والمؤسسة الدينية من ناحية أخرى لا بد أن ينشأ فيما أتصور نوع من التصالح الاجتماعى بين أبناء الطوائف المختلفة يتيح لهم أن يسلكوا حياتهم رفقاءَ فى الوطن بدلا من أن يكونوا غرماءَ فى الدين. أما أن تتحول المدرسة مرتعا لتعميق الحساسيات الدينية وأن يعضدها فى ذلك انفلات إعلام الدولة من سيطرتها، فتلك كارثة لو تُرك لها الاستمرار لأدت إلى مزيد من الاستقطاب والتناحر الطائفى يهون معه ما نرى الآن.
وفى تقديرى أن مثل هذا المنهج فى تدريس التربية الدينية لا ينبغى أن يُترك تخطيطه وصياغة نصوصه فى أيدى رجال الدين الإسلامى والمسيحى وإنما تُشكًّل له لجان تضم إلى جانب هؤلاء مؤرخين وأساتذة فلسفة وعلماء اجتماع واختصاصيين فى علم الأديان المقارنة وتاريخ الحضارات القديمة.
وعند هذا الموضع من حديثى فلا أظن أن أحدا سيندهش إذا ما قلت إنى إنما أتحدث عن منهج واحد لتدريس التربية الدينية يتعلمه ناشئة المصريين جميعا من مسلمين ومسيحيين جالسين جنبا إلى جنب فى نفس الصف ويلقيه على مسامعهم مدرس مصرى واحد قد يكون مسلما وقد يكون مسيحيا حسب ظروف المدرسة، أو قد يشترك فى تدريسه مدرسان أحدهما مسلم والآخر مسيحى مع تقسيم العمل بينهما تبعا للاختصاص ولكن بدون الفصل بين التلاميذ فصلا دينيا. وليس ما يمنع أن تكون هناك دروس إضافية تختص بالجانب العملى للشعائر والعبادات، وهذه وحدها التى يجوز فيها الفصل. وفى كل الأحوال فإن المدرس الذى يضطلع بتدريس التربية الدينية ستكون وزارة التربية والتعليم قد أعدته إعدادا مناسبا ودربته تدريبا طويلا وساعدته على تنقية ذهنه من شوائب كثيرة حتى يستطيع أن يقوم بهذه المهمة الصعبة ولكن غير المستحيلة.
إن الفصل بين ناشئة المصريين فى حصص التربية الدينية هو فى نظرى رذيلة كبيرة وعمل غير تربوى بالمرة. إن هذا الفصل الذى يبدأ فى المدرسة يستمر فى المجتمع فيما بعد ويبذر فى نفسية الصغار إحساسا غير مفهوم بأن ثمة شيئا ما يفرّق بينهم وبين زملائهم، وهذا الإحساس الغامض فى البداية لا تلبث أن تغذيه أمور كثيرة فى المجتمع. إن المدرسة دار توجيه وانسجام ومشاركة ويجب أن تكون كذلك فى كل أنشطتها بلا استثناء.