لم ندرك بعد التحديات التى تحيط بالمجتمع، ولازلنا نهوى المساجلات التى لن تفضى إلى شىء، هذا ما استخلصته من التنابذ الالكترونى والفضائى بين أبناء ثورة 25 يناير، وبين الرافضين لها، والطاعنين فيها. وعندما حاول الرئيس عبدالفتاح السيسى أن يغلق الباب بالحديث عن ثورة 25 يناير، ثورة شعب من أجل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، لم ينزل حديثه بردا وهدوءا على هواة السجال فى المجتمع.
وسط الشوارع الهادئة، وانصراف الناس عن السياسة، كانت مواقع التواصل الاجتماعى والفضائيات ساخنة، ليس بالحديث عن المستقبل، ولكن بالانشغال فى تقييم الماضى، وكأن هناك مساحة ما لا تزال قائمة لتغييره. الدليل على ذلك: هل لو اتخذ جموع المصريين عن بكرة أبيهم قرارا بأن ما حدث يوم 25 يناير مؤامرة مكتملة الأركان، هل لديهم استعداد بأن يتنازلوا عن شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية؟»، هل يعيد قرارهم الجمعى نظام مبارك؟ هل يمنع ذلك الفضاء الالكترونى من تعزيز حرية الكلام، والمحاسبة الشديدة لأداء السلطة بكل أشكالها؟
لم يعرف المجتمع المصرى معنى التصالح مع ماضيه، ولم يطبقه، مما يجعله دائما أسير نقاشات جدلية عقيمة، عبرت ثورة 25 يناير عن غضب تجاه أجهزة الدولة، سواء التنفيذية (وزارة الداخلية)، أو التشريعية (البرلمان المزور)، البيروقراطية (الفساد)، والسياسات العامة (محاباة الأغنياء على حساب الفقراء)، وغلب عليها فى بعض الفترات الرغبة فى الثأر من الدولة، وهو ما جسده الإخوان المسلمين، والقوى المحيطة بهم، والذين أمعنوا فى «تصفية الحسابات» مع من أطلقوا عليه «الدولة العميقة»، وعمدوا فى بعض الأحيان إلى إهانتها، وتقليم أظافرها، وإخضاعها لهم.
عبرت ثورة 30 يونيو عن النموذج الآخر، فهى ثورة غضب تجاه انفلات المجتمع، والرغبة فى استعادة الدولة التى باتت على شفا انهيار، فهى ضد الأخونة (انفراد الإخوان المسلمين بالسلطة وإقصاء غيرهم)، وترفض الحركة المطلقة للمجتمع المدنى (تشابكاته الخارجية تحديدا)، وضد السياسة السائلة (البديل هو ضبط المجال العام، ووضع حد للتظاهر، والتركيز على أن الاقتصاد يأتى أولا، والعودة إلى كلاسيكية «الشخصية العامة» فى الممارسة المصرية، الخ)، التأكيد على الاستقرار بمعنى الضبط والربط (غلبة البعد الأمنى على ما عداه من أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية).
نحن إذن إزاء نموذجين تصالحا فى ديباجة الدستور الذى أيده ودعا إليه كل الفرقاء، ولم يتصالحا فى نفوس النخبة السياسية على اختلاف أطيافها، وهو ما انعكس فى المساجلات حول 25 يناير، التى أرادها البعض عيدا للثورة، تغليبا للنموذج الأول، وأرادها البعض عيدا للشرطة تغليبا للنموذج الثانى، وكانت رئاسة الدولة، باتجاهاتها التوافقية فى وادٍ، والمعارك التى تحركها المصالح فى وادٍ آخر.
طى صفحة الماضى، وفتح صفحة المستقبل ينبغى أن يقوم على التصالح بين النموذجين، نموذج المجتمع الحر، ونموذج الدولة القوية، وهى بالمناسبة معضلة دول كثيرة فى مراحل التحول الديمقراطى، وتحتاج إلى هندسة قانونية وسياسية شاقة حتى يحدث التوازن الذى هو جوهر الاستقرار فى المجتمع.