تشهد المراحل الانتقالية فى حياة الإنسان ـ مثلها فى حياة المجتمعات ـ هواجس، شعورا بالقلق الممزوج بالاستبشار فى المستقبل، خوفا من ماض لم يبرح، وقلقا من مستقبل لم تكتمل ولادته.
وتعرف هواجس المراحل الانتقالية كل ألوان التغير السلوكى، وعنوانها الأساسى التحول من النقيض إلى النقيض، صيف يعبر مباشرة إلى الشتاء دون أن يمر على الخريف، وشتاء ينقلب إلى الصيف بلا توقف فى الربيع. بعض هواجس المراحل الانتقالية قد يكون وهميا، ولكن الكثير منها جاد، ينبغى التعامل معه. ولم يمر أسبوعان على بدء المرحلة الانتقالية حتى طفت على سطح السياسة هواجس من كل نوع تحولت إلى عناوين أساسية فى النقاشات، والصحف، والمساجلات، ويشكل طبيعة التعامل معها اختبارا حقيقيا عما إذا كان المجتمع تغير بالفعل، فى الفكر والسلوك أم لا يزال يهرول فى ثوبه القديم.
(1)
الهاجس الأول: يتعلق بالمدة الزمنية للمرحلة الانتقالية. قبل أن يعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة مدة ستة أشهر، سارت همهمات فى الحياة السياسية عقب إعلان تنحى مبارك عما إذا كان الجيش ينوى الهيمنة لفترة طويلة على الشأن السياسى. سمعنا من يقول إن الجيش فى أعقاب حركة الضباط الأحرار عام 1952م وعد بالبقاء لبضعة شهور طالت لنحو ستة عقود، وبالتالى فهم ليسوا على ثقة بأن الجيش سوف يعود إلى ثكناته قريبا. وقال البعض على سبيل الاحتراز نريدها ستة أشهر، ولا ينبغى بأى حال من الأحوال أن تزيد على سنة. وبعد أن اختار الجيش الحد الأدنى المطلوب للفترة الانتقالية، أى ستة أشهر بدأت الأحزاب والقوى السياسية تشكو من قصر أمدها، وتطالب صراحة وضمنا بتمديد أجلها قبل إجراء انتخابات برلمانية. موقف يدعو إلى التأمل. جيش يريدها ستة أشهر، وقوى سياسية تقول للجيش انتظر، تمهل، الفترة الانتقالية يجب أن تصل إلى عام، وربما أكثر. واتقاء لحرج مطالبة الجيش بالاستمرار فى تولى الحكم، دعا البعض إلى فترة انتقالية أخرى يسلم فيها الجيش السلطة لمجلس رئاسى يصعب فى رأيى الاتفاق على أعضائه. السبب فى إطالة الفترة الانتقالية أن هناك شعورا بأن القوى السياسية غير جاهزة ـ باستثناء الإخوان المسلمين ـ لخوض الانتخابات، وبالتالى فإن عقد الانتخابات البرلمانية فى غضون شهور يعنى صعودا إخوانيا غير مسبوق. وهكذا فإن كل الذين طالبوا بحل البرلمان السابق الذى تشكل بالتزوير، ولم يقبلوا ببقائه لبضعة أشهر فى ظل الصيغة التى طرحها السيد عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية السابق، يقفون الآن خائفين من الانتخابات النزيهة التى يشرف عليها القضاء.
(2)
الهاجس الثانى: هو هندسة القوى السياسية فى المرحلة الانتقالية. هناك ـ لأول مرة ـ منذ ستين عاما لا يوجد حزب يجسد، ويمثل، ويعبر عن مصالح السلطة الحاكمة، وذلك بتفكك الحزب الوطنى الديمقراطى الذى اختفى مع تداعى حكم مبارك. وعلى الجانب الآخر هناك أحزاب معارضة ضعيفة، هامشية، اختبرت أشكالا من الإقصاء، والتدخل الأمنى، وقبعت فى استكانة سياسية على مدار عقود، مما يجعلها فى النهاية غير فاعلة بأى معنى فى الشارع السياسى. هناك أحاديث متواترة عن جهود لإعادة تكوين الحزب الوطنى بالبحث عن عناصر نزيهة، وتفعيل الارتباط التقليدى مع العصبيات والتكوينات التقليدية القبلية والريفية التى اعتادت أن تستدفئ فى حضن حزب الحكومة. وفى صدارة المشهد السياسى الآن هناك جماعة الإخوان المسلمين، التى استطاعت أن تحصل على اعتراف رسمى بوجودها قبل رحيل مبارك بدعوة نائب الرئيس عمر سليمان للحوار معها بعد سنوات من الترصد، والإنكار، والملاحقة لأعضائها. التحول فى موقف إعلام النظام تجاه الجماعة يشبه إلى حد بعيد الانقلاب فى الموقف من مبارك ذاته، جاء فجائيا، دراميا، عاصفا. الظاهر أن الانتخابات البرلمانية إذا عقدت فى غضون شهور قليلة، استنادا إلى النظام الفردى سوف تشهد تنافسا سياسيا ـ فى الأساس ـ بين الإخوان المسلمين وبين نواب تقليديين من بقايا الحزب الوطنى يعرفون مسالك العملية الانتخابية، وكيفية الحشد، والركون إلى العصبيات التقليدية، وشراء الأصوات خاصة بعد تراجع فرص التزوير المباشر للانتخابات. وإلى جانب هاتين الفئتين الأساسيتين هناك أحزاب المعارضة التى انضم لها حزب الوسط الجديد، وبرز على المشهد فيها حزب الجبهة الديمقراطية، وشخصيات برلمانية معارضة لم تتمكن من دخول مجلس الشعب المنحل بعد أن شهدت دوائرها أشكالا من التزوير الفاضح. ويبدو أن الإخوان المسلمين لا يريدون فى المرحلة الانتقالية أن يكونوا مصدرا لقلق أطراف كثيرة، فأعلنوا أنهم لا يسعون إلى حصد أغلبية برلمانية، وليس لهم مرشح رئاسى، ويشغلهم تأسيس حزب مدنى أقرب إلى الصيغة الأردنية.
(3)
العامل المشترك فى الهاجسين الأول والثانى هم «الإخوان المسلمين». هناك قوى عديدة تشيع المخاوف تجاههم، ويلجأون إلى حيلة دأب عليها نظام مبارك وهى إشاعة الخوف فى صفوف الغرب والأقباط. أما الغرب فقد بدا فى الفترة الأخيرة أقل هلعا، ويشعر الآن بأن استيعاب التيار الإسلامى فى المنظومة السياسية وفق ضمانات دستورية كفيل بإزالة المخاوف، والحيلولة دون نشوء نموذج إيرانى جديد، وعادة ما تشكل الصيغة التركية عاملا لتحقيق التوازن فى نظرة الغرب للإخوان المسلمين. أما الأقباط فهم يخشون لأسباب تعود إلى طبيعة وضعهم السياسى. بالفعل فى الخطابات التى تصدر عن الإخوان المسلمين إشارات صريحة وضمنية تتعارض مع المواطنة الكاملة لكل المصريين بصرف النظر عن الاختلاف فى الدين أو النوع، وهو ما يستدعى من الإخوان المسلمين مواجهة جادة، وإعلانا صريحا دون مواربة عن الاحتكام لمبدأ المواطنة، ليس وفق تعبيرهم المتداول فى وصف الأقباط «الإخوة فى الوطن»، وهو تعبير لطيف لكنه غير منضبط قانونا، ولكن من منطلق المساواة فى الحقوق والواجبات وفق الدستور وليس المرجعية الدينية، والتخلى عن «النظرة الذمية» فكرا وممارسة. هذه هواجس مشروعة لدى الأقباط، ولكن لا يجب أن يمتد الخوف إلى أبعد من ذلك، وتصور أن مشاركة الإخوان المسلمين فى الحكم، أو وجودهم على الساحة السياسية يسبب مشكلات للأقباط. فلم يكن «الإخوان المسلمين» يحكمون مصر طيلة العقود الثلاثة الماضية التى تصاعدت فيها الطائفية، وتعرض الأقباط فيها إلى استهداف فى الأرواح والممتلكات، وتهميش سياسى واضح، ومعوقات ظاهرة فى قضايا كثيرة منها بناء الكنائس، والترقى لمناصب قيادية فى جهاز الدولة، والتمثيل المناسب فى الهيئات المنتخبة، وخلافه. النظام السابق هو المسئول وحده عن استمرار هذه المشكلات، ولم يكن للإخوان المسلمين علاقة بها. وقد استخدم نظام «مبارك ـ العادلى» التيارات السلفية بمهارة ضد الإخوان المسلمين تارة، وضد الأقباط تارة أخرى. وهكذا، تحولت الطائفية إلى أحد الدعائم التى يستمد منها النظام ماء الحياة، فلا مجال إذن لإعادة إنتاج الخطابات القديمة، أو الاستسلام لأفكار سابقة، يمكن فقط من خلال الاشتباك، والحوار، والنقاش الجاد فرز الأفكار، وتحديد المواقع السياسية.
(4)
الهاجس الرابع: هو تصنيف ما يجرى منذ 25 يناير إلى الآن. هناك من يقول ثورة الشباب، وهناك من انزعج من التسمية فبات يردد أن الثورة بدأها الشباب، ولكن حققها الشعب المصرى. وفريق ثالث، أخفض صوتا يصفها بأنها ليست ثورة، فلم يصل الثوار إلى الحكم. بدأ «تحرش جيلى» فى الساحة السياسية. البعض يريد الإفادة من الثورة، ولعب دور «العراب» بالنسبة للشباب الذين أطلقوها، وتحملوا قسوة البداية، وفريق آخر يريد الالتفاف عليها، وتفريغها من محتواها، وعودة النظام من جديد، فى صورة جديدة، وملامح مختلفة، وقسمات وجه لا تعرف كبرياء، وصلف نظام مبارك. أخشى أن يوجد فى صفوف أحزاب المعارضة من يرجح هذا البديل خوفا من القادم الشبابى، يساعد على ذلك أن الشباب أنفسهم مختلفون، والانقسامات بينهم تلوح فى الأفق.
فى ظنى أن النظام السابق يعيد انتاج نفسه الآن بصورة مختلفة. فلا تزال علاقات القوى والمصالح فى المجتمع على حالها، والمثال الأبرز على ذلك أن العلاقات الريفية لم تعرف الثورة بعد، ولم تنفعل مع جيل من أبناء الطبقة الوسطى الحضريين، والمؤسسات البيروقراطية والأمنية ستبقى مع قدر من التعديل. مما يجعلنا نعتقد أن التفاعلات الراهنة قد تقود إلى إعادة انتاج نظام جديد بوجه مختلف، أقل تسلطا وأكثر انفتاحا.
نظام مهجن جديد، ليس مثل السابق، أكثر تسلطا وأقل ديمقراطية، ولكن النظام الذى فى طور الولادة هو أكثر ديمقراطيا وأقل تسلطا.
باختصار هى طبعة أكثر انفتاحا من نظام تسلطى سابق، والعبرة ستكون بعد انتهاء السنوات الخمس الأولى من عمره، خاصة بعد أن تكون الأحزاب الجديدة قد ظهرت، وخاض الشباب تجربة سياسية، وأفرز المجتمع قواعد جديدة للعبة السياسية، وتخلصت المؤسسات من الوجوه القديمة، وتحقق الانفتاح السياسى فى المجالات الدعوية، والحقوقية، والمشاركة الشعبية.