نشر موقع السفير العربى مقالا للكاتبة «شمائل النور».. نعرض منه ما يلى.
تقدّر السلطات المحلية عدد بائعات الشاى بولاية الخرطوم بأكثر من 23 ألف بائعةٍ ثابتة. فى السابق، كانت هذه المهنة ملاذا للنازحات والفارات من مناطق الصراع، أو المناطق التى تأثرت بموجات الجفاف والتصحر. لكنها خلال السنوات الأخيرة، جذبت الكثير من النساء اللواتى يعانين من تردّى الأوضاع المعيشية، واتساع دائرة الفقر.
منى (28 عاما) المنحدرة من إقليم كردفان تعمل بالشراكة مع بائعة شاى أخرى فى إحدى أسواق الخرطوم الشعبية. لجأت إلى بيع الشاى بعد انضمام زوجها إلى إحدى الحركات المتمردة قبل تسع سنوات، تاركا لها طفلين، علاوة على عبء أسرتها الأم، المكونة من والدتها وخالتها التى تعانى مرضا يحتاج إلى نفقاتٍ على الدوام.
لكن منى لا تمتلك «تربيزة» خاصة بها لبيع الشاى. و«التربيزة» تعنى الأوانى والموقدَ التقليدى ومقاعد للزبائن، وهى لذا تتقاسم مع سيدة أخرى الدخل اليومى مناصفة بينهما. تحتاج منى لنحو 10 آلاف جنيهٍ سودانيّ، أى أكثر من 125 دولارا، كى تمتلك تربيزتها الخاصة.
مأساة منى ليست فقط فى دخلها المحدود، والعبء الأسرى الذى يقع على عاتقها. فهى تزوجت فى سن مبكرة. زوّجها والدها من رجل يكبرها فى السن ومتزوج، مكث معها سنوات ثم انتقل إلى مناطق التمرد وانقطعت أخباره. علمت منى أنه تزوج بعدها، وهى الآن فى وضع معلّق، فلا هى مطلقة ولا هى متزوجة، ولا يبدو أنها ترغب فى اللجوء إلى المحكمة لتطليقها غيابيا لأن ذلك يكلِّفها مصاريف قضائية.
ليست حالة منى نادرة بين بائعات الشاى فى السودان. فخلف كل كوبٍ قصة مؤلمة، وأسرة ممتدة تتحمل بائعة الشاى الإنفاق عليها وإعالتها فى صمت، مواجِهة فى سبيل ذلك بطشَ السلطات، وقساوة مجتمع يرمى بحمله على النساء.
ملاذ النساء الفقيرات من مختلف مناطق السودان
على الرغم من أن هذه المهنة تعرّض صاحباتها إلى الكثير من المشاكل، وإلى مطاردة السلطات المحلية، فإنها جاذبة لهن. فعلاوة على دخلها المعقول مقارنة مع غيرها من المهن الهشة، فهى عمل حر تستطيع من خلاله أن تُقسّم صاحبته وقتها ما بينه وبين واجبات البيت، كما يمكنها التنقل من مكان إلى آخر بحسب تدفق الزبائن.
تقدر السلطات المحلية عدد بائعات الشاى بولاية الخرطوم بأكثر من 23 ألف بائعةٍ ثابتة. ووفقا لدراسة سابقة أعدتها وزارة التنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم عام 2013 شملت 13 ألف بائعة شاى فى العاصمة، فإن نسبة 46,8 فى المائة منهن متزوجات. وبحسب بيانات الدراسة، فإن فئة المتزوجات تشمل كذلك «المعلّقات» اللائى تخلّى عنهن أزواجهن هربا أو بحثا عن عمل، وهى بهذا فئة كبيرة جدا بين بائعات الشاى.
وعلى الرغم من أن الحروب التى اشتعلت فى أطراف السودان قادت إلى موجة نزوح مستمرة، فإن القاسم المشترك بين جميع بائعات الشاى تجاوز عامل الحرب والنزوح إلى عامل الفقر الذى تفشّى فى كل أقاليم البلاد. ففى السابق، كانت هذه المهنة ملاذا للنازحات والفارات من مناطق الصراع أو المناطق التى تأثرت بموجات الجفاف والتصحر، لكن خلال السنوات الأخيرة جذبت المهنة الكثير من النساء المعانيات من تردى الأوضاع المعيشية واتساع دائرة الفقر. كما كانت المهنة فى الماضى تكاد تقتصر على إثنيّات محددة لا ترى فى خروج المرأة للعمل فى الشارع ما يُشين، إلا أنها الآن شملت جميع فئات السودان، بل جذبت حتى الأجنبيات من دولتى إثيوبيا وإريتريا.. وعادة ما تتخذ الأجنبيات السودانَ محطة للعبور، والوصول إلى أوروبا.
شهد السودان خلال السنوات التسع الأخيرة تراجعا مريعا فى الاقتصاد، وذلك بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، وفقدان الواردات النفطية، وانهيار العملة الوطنية، ما أدى إلى ضغوط معيشية متزايدة مقابل شحٍّ فى الوظائف فى القطاعين العام والخاص، وتفشّى الفساد فى مؤسسات الدولة وغياب المحاسبة. ومع اتساع دائرة البطالة وسط خريجى الجامعات، توسّع بشكل لافت القطاع غير المنظم الذى امتد إلى العديد من الأنشطة الاقتصادية التى تعمل خارج نطاق الاقتصاد الرسمى.
وتعزى دراسة رسمية تزايد أعداد العاملين فى القطاع غير المنظم لعدد من الأسباب، من بينها الهجرةُ من الريف إلى المدن بسبب النزوح، أو انعدامُ الخدمات وفرص العمل. كما أن النشاط التجارى فى القطاع غير المنظم لا يتطلب مستويات متقدمة من المهارات والتكنولوجيا، ولا يخضع لشروط الضرائب والترخيص الرسمى، وبالتالى لا يخضع لضبط المواصفات والجودة. بالمقابل تتزايد حدة الفقر بين العاملين فى هذه القطاعات، ويفتقرون إلى خدمات الضمان الاجتماعى والتأمين الصحى والتعليم.
عوضية كوكو من بين أشجع 10 نساء فى العالم
كانت مهنة بيع الشاى تقتصر على كبيرات السن، أو هكذا جرت العادة. إلا أنها الآن تسيطر عليها فئة الشابات بدرجة لافتة، حيث إن النسبة الأكبر من بائعات الشاى تتراوح أعمارهن بين30ــ40 عاما، فيما تتراوح أعمار البائعات الأجنبيات بين 15ــ20 عاما، وأن نسبة 53.3 فى المائة منهن توقف مستوى تعليمهن عند مرحلة الأساس (الابتدائي)، بينما تبلغ نسبة الجامعيات من بينهن 27.2 فى المائة. وعلى الرغم أنه لا يوجد تاريخٌ واضح لبداية ظهور هذه المهنة، إلا أن الاهتمام بها بدأ فى التسعينيات الفائتة، وهى قابلت نظرة اجتماعية لا تخلو من القسوة وصلت حد الوصم فى بعض المجتمعات المحلية، إلا أن تصاعد الخطاب النسوى الحقوقى، وعلو صوت المثقفين فرض أرضية تعاطف واسعة مع بائعات الشاى، عززه بطش السلطات المحلية وحملات «الجبايات» التى تنفذها.
وتواجه السلطات بائعات الشاى بقانونى «النظام العام» و«حماية الأراضى»، وتنفذ الحملات بقوةٍ شرطية ومدنيين يتبعون للسلطات المحلية. تصادَر معدات البائعات ويتعطل يومهن.
حصدت بائعات الشاى تعاطف الجميع بسبب هذه الحملات، ونشطت العديد من منظمات المجتمع المدنى فى الدفاع عنهن والتصدى للسلطات المحلية. وتتويجا لهذا التحول فى النظرة كان التكريم الكبير لـ«عوضية كوكو»، إحدى بائعات الشاى، اختارتها وزارة الخارجية الأمريكية ضمن أشجع 10 نساءٍ فى العالم فى العام 2016. أسست عوضية «جمعية بائعات الأطعمة والمشروبات» فى العام 1990، بعد أن امتهنت بيع الشاى فى الخرطوم فى العام 1986. وهى من أوائل العاملات فى هذه المهنة، حتى تحولت إلى أيقونة لصاحبات هذه المهنة. وترأس عوضية حاليا «الاتحاد التعاونى النسوى» متعدد الأغراض، والذى يضم نحو 26 جمعية نسوية تضم آلاف العاملات فى الأطعمة والمشروبات، وهى وظّفت رمزيتها بشكل كامل لتحسين أوضاع رفيقاتها فى المهنة، وتسعى الآن فى مشروع التأمين الصحى لبائعات الشاى، مستهدفة نحو 10 آلاف بائعة وأسرهم. العمل على هذا المشروع جارٍ وهو واحد من توصيات دراسة وزارة التنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم.
تقدم الجمعيات النسوية التى ترأس اتحادها عوضية كوكو الدعمَ المستمر للسيدات الأعضاء المتمثلَ فى التدخل العاجل لحل المشكلات اليومية مع السلطات المحلية، والوعى القانونى والصحى، إضافة إلى المساعدة فى تغيير المهنة للراغبات. وفعليا أكمل الاتحاد التدريب المهنى لحوالى 150 بائعة يرغبن فى التخلى عن بيع الشاى والانتقال إلى مهن أخرى. ونادرا ما تفضل بائعات الشاى العمل فى مهن أخرى رغم أنهن على الدوام يبدأن حديثهن بأنهن جُبرن على هذه المهنة، ذلك لأن الدخل اليومى فى هذه المهنة يغطى احتياجاتهن. وتقول منى الفكى، مسئولة الشئون الاجتماعية بمحلية الخرطوم (البلدية)، أن مساعيها فشلت فى دفع بعض الجامعيات الممتهنات لبيع الشاى لتغيير مهنتهن، بعد توفير السلطات المحلية عددا من الوظائف لهن فى إطار إيجاد حلول وفرص بديلة. لكن فرق الدخل الشهرى بين الراتب الحكومى وبيع الشاى وقف عائقا كبيرا أمام ذلك، فرفضن القبول بوظائف حكومية. ويقدر دخل بائعات الشاى اليومى فى أماكن التجمعات السياحية مثل شارع النيل بـ 2000 – 2500 جنيه سودانى أى نحو (30) دولار يوميا.
ترفيه بأسعار زهيدة..
امتدت يد الحداثة إلى هذه المهنة، حينما تحولت بعض مناطق تجمعات الشاى فى الخرطوم إلى وجهاتِ ترفيه يرتادها المئات على مدار اليوم، وبشكل خاص خلال الأوقات المسائية. فمنطقة مثل شارع النيل بالخرطوم تكتظ ببائعات الشاى على طول الشريط النيلى الممتد من الخرطوم إلى أم درمان، ويتجمهرُ هناك مئات الرواد من الشباب والأسر. ولتوسيع الدخل وجذب الزبائن، تلجأ بعض البائعات إلى إضافة المعجنات. ومع تراجع متوسط الدخل للسودانيين، يفضل كثيرون قضاء أوقاتهم فى تجمعات الشاى، نظرا لأسعارها المعقولة بالمقارنة مع المقاهى والمطاعم الكبيرة. وتفتقد الخرطوم إلى مناطق سياحية وترفيهية بسبب قبضة نظام الإسلاميين الذى حكم لـ 30 عاما، وكان لذلك أثر إيجابي على مهنة بيع الشاى فى الطرقات.
تعتبر السلطات المحلية أن بيع الشاى على قارعة الطريق مصدرٌ للتلوث البصرى، وهى لم تفلح عبر برامج عديدة فى إحداث نقلة فى هذه المهنة، الذى ظل مثار جدل مستمر بين السلطات المحلية والنشطاء الحقوقيين: على سبيل المثال حاولت السلطات وضع بائعات الشاى داخل «أكشاك» وهى غرف صغيرة متحركة مصنوعة من الحديد بداخلها موقد يعمل بالغاز بدلا عن الموقد التقليدى الذى يعمل بالفحم، على أن تكون هناك مساحة فاصلة بين بائعة الشاى والزبائن، لتحسين واجهات الشوارع. لكن هذا المشروع لم ينجح لأنه يحد من تدفق الزبائن. ووجدت الدراسة التى أجريت على بائعات الشاى أن اللائى يفضلن «الكشك» تبلغ نسبتهن 33.7 فى المائة، وأما الأغلبية فيفضلن «التربيزة».
بائعات الشاى إحدى الفئات الهشة التى تكابد للحصول على مقومات الحياة اليومية مثلها مثل العديد من المهن التى يضمها القطاع غير المنظم. أقصى طموحهن بعد الثورة أن يعملن بهدوءٍ ويحصلن على خدمات مثل التأمين الصحى، وألا تعود الحملات ضدهن وأن يتحسن الاقتصاد عموما وتتوافر وظائف لأبنائهن الذين درسوا وتخرجوا على حساب الساعات الطويلة التى تقضيها كلٌّ منهن على قارعة الطريق.