نادت الأمُ الولد: تعا يا فاشل. لم يكن نداءُها حادًا مشفوعًا بالضّيق والغَضب؛ بل بدا هادئًا مُتراخيًا، وتبيَّن الجالسون في المقهى أن الوَصفَ الذي أطلقته على صَغيرِها ليس سوى لقب عاديّ؛ لا يعكسُ موقفًا لحظيًا مُتأزمًا ولا ينمُّ عن ارتكابِه أيَّ خطأ. بدت ابتسامتُها في هذه اللحظةِ عجيبة؛ إذ ثمَّة مُفارقةٌ عميقة بين فكرةِ الفَشل وسعادةِ الملامحِ وانبساطها.
• • •
يأتي الفعلُ فَشَلَ في معاجم اللغةِ العربيةِ بمعنى أخفَق، الفاعلُ فاشِلٌ والمصدر هو الفَشَل، وإذا أعلن الواحد فشلَه؛ فموقِفٌ وقتيٌّ قد تعقبه مُحاولاتٌ ناجحة، أما إذا أعلن عجزَه؛ فإيحاءٌ بأنه قد بذلَ ما عنده وأخيرًا استسلَم. العَجزُ حالٌ تبدو دائمة؛ بينما الفشلُ مرحليٌّ، وقابلٌ في كثير الأحيان للتغيير.
• • •
الرُّسوبُ نوعٌ من الفشل. فشلٌ في تخطّي مُعضِلةٍ ما؛ ربما تكون أسئلةَ امتحان، أو أسئلةً تطرحها الحياة. قد يفشلُ الواحد أمام الأسئلةِ الصَّعبة وإن كان ظاهرها يسيرًا؛ فثمَّة رغباتٌ ونوازع تدفع الإجابةَ في اتجاه خاطئ، وتجلبُ لصاحبها اللَّومَ والعتاب.
• • •
كلمًا أحرزَ واحد من التابِعَيْن؛ بهروز والمليجي فشلًا جديدًا في مُهِمَّة كُلِّف بها؛ ردَّد عمدةُ ميت الغانم عبارتَه الشهيرة: "خيبةُ الله عليك". أمتعنا القدير صلاح السعدني في "ليالي الحلمية" بأداءٍ مُتفرد؛ وإذ رَحَلَ مُؤخرًا عن عالمنا؛ فقد خلَّف حبًّا وتقديرًا واحترامًا ندر أن يجتمعوا لشَخص.
• • •
إذا أراد الواحد أن يُعلنَ استياءَه من قيامِ آخرٍ بتصرُّف غير مُناسب قال: خَيوبًا عليك وخيَّبك الله. التعبيران يعكسان صورةً من الفَشل؛ لكنهما لم يعودا مألوفين أو وافريّ الاستعمالِ في كلامِنا المُعاصر، فقد حَلَّت مَحلهما عباراتٌ أخرى، وبقيت واحدةٌ أكثر شعبيَّة وانتشارًا لسهولة نطقِها: جاءتك خَيبَة. هناك من خَاب أملُه وحقَّق فشلًا فيما تمنى، وهناك مَن فشلت مَساعيه ولم يَجنِ منها المُراد، ومَن كان إخفاقُه مُدويًا صادحًا حتى ليقال إن "خيبته قوية"؛ وإذ نستخدم المثلَ الشعبيّ الشهير: "الناس خَيبتها السَّبت والأحد وخَيبتك ما وردتش على حَد"؛ فالمعنى أن الخيبةَ يجب أن تكون استثناءً لا قاعدةً، وأن استمرارها أمرٌ مُثير للدَّهشة، دافع للسًّخرية والتَّعريض.
• • •
إذا سَقَطَ المَرءُ من أعيُن الآخرين؛ فقد فشلَ في الاحتفاظ بالصورةِ التي كونوها عنه في أذهانهم، ومِن ثمَّ تنازل عن احترامِهم له واعتزازِهم بشخصِه. السُّقوط هنا مجازٌ مُعبِّر، والفشلُ في الحِفاظِ على المكانةِ المعنويَّة لا يكون في العادةِ مؤقتًا، فإن وقعَ بات وَصمَةً أبدية.
• • •
الثباتُ في بعض الجَّوانب فشَل؛ فطبيعةُ الحياةِ حركةٌ متواصلةٌ، والحركةُ إما أن تكونَ إلى الأمام أو الوراء، إلى أعلى أو أسفل؛ فإن تجمَّد الإنسانُ عند نقطة ما، مضت الأحداثُ في طريقها وتركته، وإذا لم يبذل جهدَه ليلحقها قيل: قد فاته القطار. قطار الترقّي أو الزَّواج، أو ربما قطار تحقيقِ إنجازٍ يَلوذُ به عند المُسائلة.
• • •
الفشلُ المُتوالي مُؤشّر خطر؛ إذ يشي بعدم القُّدرة على التعلُّم من التجاربِ السابقةِ واستلهام العِبَر واكتسابِ الخبرات، ومن ثمّ الغرق رويدًا في خِضَم المُشكلات والنكُوص عن إيجادِ الحلول. تكرارُ الخطأ نفسِه مرَّتين فشلٌ، أما الثالثة والرابعة فتشيان بعقمِ التفكير وبلادةِ الذِهن والوجدان.
• • •
بعضُ الأشخاصِ يرون نجاحاتهم من منظارٍ داكن؛ يجدونها أقلَّ مما يُرضيهم ويُسعدهم، ويظنونها أمرًا عاديًا لا يستحقُّ الذكر. آخرون يتصوَّرون فشلَهم إعجازًا لم يسبقهم إليه أحد، وينتظرون أن يحصدوا التهانيَ وأن تلاحقَهم نظراتُ الإعجاب والانبهار، والحقُّ أن كلًّا منا يُقيِّم ذاته بطريقتِه الخاصَّة؛ فإن عطبت رؤيتُه، أبصر أماراتِ التهاوي كعلاماتِ تفوُّق، واستقبل قرقعاتِ الانهيارِ وكأنها طبولُ الاحتفال.
• • •
هناك من يفشلُ في أداءِ دَورِه ومن يَفشل في أداءِ وظيفته، ومَن يفشل في دراسته؛ الفشلُ في مِضمار لا يعني إظلامًا تامًا، فأكم من أشخاصٍ حقَّقوا نجاحاتٍ كبرى في مجالات لم تكن مُتوقَّعة، وآخرين كان يُتوقَّع لهم التفوُّق والتألق؛ قد فشلوا وخابوا ولم يكونوا على قدرِ المسئولية.
• • •
كثيرا ما نَصفُ الفشلَ بأنه ذريع؛ والقَّصد أنه واضحٌ مُحقَّقٌ ودامغ، لا يُمكن إنكاره أو التهرُّب منه، ليس بنصفِ فشلٍ أو بعض فَشل؛ بل كلٌّ كاملٌ يَحجِبُ الشمسَ ويُلقي بظلّه كثيفًا واسعًا؛ حتى ليصعب أن يختلفَ عليه اثنان، خاصة إن أمكن إخضاعه للقياسِ ولمسه غالبُ الناس.
• • •
تتراجع أعضاءُ الجَّسد الحيويَّة عن أداءِ وظائفها ما ألَمَّ بها مَرضٌ، أو ما أصابها التعبُ وأنهكها سوءُ الاستخدام، ويُقال حينئذ إنها قد "فشلت". ربما تفشلُ عضلةُ القلبِ أو تفشل الكُلى، بل وقد يفشلُ الكبدُ ويكُفُّ عن التخلُّص من السُّموم ومثله الجهازُ التنفُسيّ الذي قد يؤدي قصورُه إلى تراكُم الضارِ من غازات. بعضُ المرَّات يكون الفشلُ مؤقتًا؛ تستعيد الخلايا نشاطَها وحيويَّتها بعد زوالِ أسبابه، أما إن دام وطال؛ فقد لا تستطيع استعادةِ كفاءتِها مِن جديد.
• • •
إذا فشلَ المَرءُ في تحقيقِ أحلامِه انتابه اليأسُ والإحباط. تفشلُ كثيرُ العلاقاتِ العاطفيَّة في الآونةِ الأخيرة ويَعزفُ كثيرُ الأشخاص عن الارتباط، والحقُّ أن الظروفَ المُعقَّدة التي تلبّد الأفقَ تنبئ بمثل هذا الفشل؛ لكن الناسَ يستبقون الأملَ ويَرجون زوالَ الغُمَّة ولا يكفُّون عن التشبُّث ببَصيصِ الضَّوء.
• • •
طعمُ الفَشل مَرير؛ لكنه حافزٌ على الاجتهادِ ما توفَّر المناخُ العادل الذي يُمكن في إطاره التغلُّب على العوائق، وإذا كانت الخسارةُ دومًا واردة؛ فيجب أن تكونَ المَكاسِبُ مثلها وأقرب، أما أن يتيقَّنَ الواحد من غيابِ فرصتِه في تجاوُز المِحنة؛ فمرارةٌ كبرى، وأما أن يُدركَ عدم جدوى المُحاولة؛ فمذاقُ صَبرٍ وعلقم.