آدم حنين فنان الخلاصة - سيد محمود - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 7:57 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

آدم حنين فنان الخلاصة

نشر فى : الثلاثاء 26 مايو 2020 - 10:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 26 مايو 2020 - 10:25 م

ظل بيت آدم حنين فى الحرانية من أقرب البيوت إلى قلبى، وفى كل مرة كنت أذهب إليه كنت أتساءل عن سر الحنان الذى يملؤه، كانت (طلة) آدم بابتسامته المريحة تقنعنى أن فيه شيئا من أبى.
رأيته لأول مرة قبل أكثر من 15 عاما فى سيمبوزيوم النحت بأسوان، كان أبى على قيد الحياة، واقتنعت بعد حوار قصير معه أنهما رفيقان صعيديان افترقا على محطة القطار.
لم يكن آدم يظهر بدون صلاح مرعى، الذى كان كريما فى محبته يدخل معه إلى المتحف المفتوح فوق الجبل يتركه ليقدم خلاصة تأملاته ليبدو مثل راهب بوذى ملاحق بالكهنة الصغار الذين يستعصى عليهم الحوار مع الحجر.
فى الأمسيات الليلية التى كانت تجمع المشاركين ظل آدم قليل الكلام إلا فى ليلة طلب منه عبدالرحمن الأبنودى أن يتحدث عن صداقته مع صلاح جاهين وشادى عبدالسلام، وفسر حضورهما الفارق فى الذاكرة الثقافية وقال إنه لا يحلم بأكثر من هذا.
وحين طلبت منه إجراء حوار عن تجربته كتب لى رقم هاتفه وقال لى «تعالى.. شوف الشغل ونتكلم».
لم يكن آدم عندما زرته لأول مرة عام 2005 قد بلور تماما فكرة تشييد متحفه، وطلب منى تأمل أعماله تحت شعار «خد وقتك».
وحدثنى عن تصوراته لتمثال المسيح وتماثيله التى احتفت بقيلولة الفلاحين ومجموعاته عن الخلق والحساب وتحدثنا عن هاجس الموت فى الفن المعاصر.
حكى لى قصة مركب الجرانيت الضخم الذى يفرد طوله فى الحديقة وعلى أحد جوانبه نقش باسم زوجته الراحلة عفاف (شقيقة بدر وعلاء الديب)، والتى حملتها المركب إلى الجانب الآخر من الحياة.
عمل خالد أطلق عليه اسم «سفينة نوح»، لأنه حمل أعماله كلها وأنقذها من طوفان التبدد طوال فترة سفره.
التى كان يستمع فيها إلى «أم كلثوم» ونحت تمثالا لها لم يكن يشبهها تماما لكن كان لديه حظ فى الانتشار والذيوع الذى تمناه آدم لمجموعة من الاسكتشات رسمها فى «صباح الخير» لتصاحب رباعيات صلاح جاهين عند نشرها لأول مرة وسعد حين أهديته طبعة من الرباعيات وعليها اسمه.
تحدثنا عن تصوره لما أنجزه فى النحت بعد رحيل محمود موسى وعبدالبديع عبدالحى، وعن الشعبية التى صنعها محمود مختار لفن النحت وعن جمال تمثال المحارب المصبوب فى عدة نسخ أشهرها النسخة المقامة عند مدخل الأكاديمية المصرية فى روما وتحفظ على تعبير الأب الروحى الذى يفسر به البعض علاقته مع النحاتين المعاصرين.
قال آدم إنه اشترى بيته ردا على تجربة نكسة 67 من ثمن تمثال اشترته جريدة الأهرام لتضعه فى حديقة المدخل بشارع الجلاء، واستجاب لإلحاح صديقه رمسيس ويصا واصف وصار له بيت وحقل. وبعد 65 عاما من العمل المستمر تحول البيت إلى متحف، دون أن يحمل صاحبه الدولة مليما واحدا رغم أنه كان صديقا مباشرا لأقوى وزير ثقافة عرفته مصر.
لم يكن آدم يحب عرض أعماله فى قاعات عرض، ويرى التجربة غير ملهمة، لكنه فى السنوات الأخيرة استجاب لضغوط المنافسة بين الجاليريهات العالمية، وراجت أعماله فى الغرب وأسواق الخليج فى تجربة كان يراها شبيهة بعمليات المضاربة التى رفعت أسعار أعماله بطريقة يسرت له الأموال التى جعلت من تحقيق حلم بناء المتحف عملية ممكنة.
وفى زياراتى التى توالت وكانت آخرها فى يناير الماضى نبهنى آدم إلى أن الفكرة الأهم فى مسيرته جاءت من فرص الحوار التى توافرت له مع رموز جيله فقد كان فاعلا فى حركة طليعية لدى أفرادها تصورات عن الفن والحياة.
وقال لى إنه حين سافر إلى أوروبا كان طموحه مرتبطا بفلسفة عمل جعلت من أعماله مسيرة باتجاه النور والوصول إلى النحت الصافى وما يسميه بـ «الحقيقة العارية».
بدأ تجاربه برسوم ملونة فيها الكثير من التجريد ورسم الاسكتش انطلاقا من خبرة الرسام الصحفى، ثم واصل مع النحت المعدنى إلى أن وصل إلى العمل بالجرانيت، وأخيرا خامات «الجبس» أو «الجص» الذى كانت عنوانا لمرحلة النحت الخفيف.
أدرك أن أهم ما فى النحت الفرعونى أنه كتلة بلا وزن وخفيف رغم ضخامته، وخاف من أن يؤدى عشقه للفن المصرى القديم إلى تحديد أفق لتجربته، بحيث يصبح ما يقدمه مجرد نسخ وتقليد، ووجد آدم أن الحل فى الاتجاه إلى التبسيط والاختزال بحثا عن الخلاصة.
مات آدم الأسبوع الماضى بعد أن شبع من النجاح، وبلغت أعماله نقطة النور التى تصمد فى مواجهة كل أشكال الفناء، وتبقى مسئولية الدولة فى الحفاظ على كيان كبير خلف لافتة متحفه.