من الحلاقة إلى خلع الضرس، عبارة يقصد بها فى اللهجة الشامية عدم القدرة على حل مسألة برمتها وبشكل متكامل بسبب المقاطعة الدائمة. لنتخيل شخصا يجلس على كرسى الحلاق عالى الظهر أمام المرآة، يبدأ الحلاق بقص شعره ثم يتوقف ليفرش رغوة الصابون على وجهه ليحلق ذقنه، ثم يطلب منه أن يفتح فمه ليخلع له ضرسا، وهو أصلا غير مخول بذلك. هل اتضحت الرؤية؟
***
هذا حالى وحال الكثيرين ربما فى هذه الفترة من السنة، حيث يطوى طلاب المدارس وعائلاتهم سنة دراسية فيجففون داخل كراساتهم ذكريات كتبوها بالحبر الملون، وقد تخبئ إحدى الطالبات وردة بلدية التقطتها خلال رحلة الفصل إلى حديقة الأورمان فى الربيع بين صفحتين من عمليات حساب معقدة.
***
ها أنا إذا أنهى عاما دراسيا مع أطفالى، وأنهى معه فى قلبى سنة أعرف أنها لن تعود فى علاقتنا. أمر على أرففهم وأفرز كتبهم وثيابهم بصعوبة، فجزء منى لا يريدهم أن يبتعدوا عنى مسافة سنة هى السنة التى كبروها الآن. أذكر حين ولدت طفلتى الأخيرة نظرت إليها وتساءلت إن كانت تلك آخر مرة أرافق فيها أحد أطفالى فى حياته. هى الأخيرة فالجواب قطعا نعم!
***
يحمل آخر هذه السنة الدراسية بعدا عاطفيا أعمق بالنسبة لى، إذ قررت عائلتى الانتقال من القاهرة بسبب العمل، فها نحن إذا نودع حياتنا هنا. لذا فعلى الأرجح أن تنقلى من مهمة إلى أخرى داخل المنزل ما هو سوى محاولة منى أن أتمسك ببعض ما هو ثابت فى البيت وسط محاولة زوجى ومن حولى أن يركزوا على مهام متعلقة بالانتقال والترحال. أهذا وقت خبز البسكويت؟ وسط عملية فرز أدوات المطبخ بغية شحن بعضها وإعادة تدوير بعضها الآخر؟ نعم فرائحة الخبز تشعرنى أننى باقية. أهذا فعلا وقت قبول دعوة للتعرف على أولياء الأمور فى المدرسة؟ نعم إذ إن أطفالى سيعودون إلى القاهرة بعد بضع سنوات لذا لم التردد فى قبول الدعوة؟
***
أمور صغيرة يومية هى التى تربطنى بالأماكن، وليس معالم أثرية أو الأهمية التاريخية للمدن. أن أتنقل فى الحى الذى أعيش فيه مشيا على الأقدام فألتقى بالصدفة بأصدقاء يسكنوه أيضا، أن أدخل إلى دكان محدد دون غيره لا لسبب سوى أننى أتعامل معه منذ سنوات فتلقى موظفة المحاسبة على التحية بوجه بشوش وتسأل عن أطفالى الثلاثة فهى تعرفهم بالاسم وتعرفنى أثناء حملى بهم جميعا. أن أتذمر كغيرى من سكان الحى من الفوضى ومن سكان جدد ومن استباحة الفضاء العام والأرصفة من قبل القهاوى والباعة والأكشاك والسفارات حتى باتت المساحة المتاحة للأفراد لا تكفى حتى للمشى بملاصقة الحائط. أن أدخل إلى قهوة من تلك التى تستبيح الرصيف وألتقى بصديقة فأتناسى الاستباحة لمدة دقائق. أن أنتظر أولادى بعد المدرسة أو أعود من عملى بعدهم فتقفز الصغيرة لاستقبالى. أن أراقب بائع الورد الذى أشترى منه الورد البلدى منذ سنوات، وأرى أنه أصبح يعرف السكان جميعهم ويعرض على كل منا ما نحبه. الورد البلدى: هل من مكان فى العالم ينتج هذا الورد؟ مع العلم أنه بالنسبة للسوريين فلا وردة بعد الوردة الدمشقية الجورية، إنما الورد البلدى «حاجة تانية».
***
تفاصيل قد تبدو صغيرة وغير مؤثرة فى القصة الكبرى هى الأقرب إلى قلبى والأصعب عليه فى فترة الانتقال هذه، فترانى أحسب عدد المرات التى سوف أشترى فيها الورد لبيتى فى القاهرة قبل أن أغلق أبوابه وشبابيكه باتجاه مكاننا الجديد. أمشى فى الشارع وأتذكر أحداث عند كل زاوية، هنا توقفت لأتلقى اتصالا من أخى يقول أنه الآخر سوف ينتقل للعيش فى مصر، هناك وقع ابنى فى أولى محاولاته للمشى حين لم أدرك وقتها أن على الطفل أن يقع مرات كثيرة قبل أن تثبت خطواته وتشتد. هناك رأيت نجما عالميا يقطع الشارع لكنى لم أدرك من هو حتى قرأت عنه فى الصحف، إذ إننى نظرت إليه وتساءلت لماذا بدا لى وجهه مألوفا؟
***
لا أعرف لماذا يحتفظ العقل البشرى بقصص كهذه، لماذا نعود إلى أحداث غير مؤثرة عموما لكنها تحمل دلالة على مرحلة أو على موقف أو على شعور غامر قد يكون اجتاحنى يومها، كذلك اليوم الذى فرحت فيه كثيرا بسبب قرار أخى أن ينضم إلى فى القاهرة. لماذا تصر تلك التفاصيل أن تحشر نفسها فى يومى المكتظ فتدخل بين كتبى المفروزة صناديق الشحن التى أحاول أن أغلقها إنما تقف التفاصيل فى زواياها فتمنعنى من لصقها بإحكام؟ هذا فعلا ليس وقتا مناسبا للغرق فى كل ما يربطنى بالقاهرة، وأنا على وشك الرحيل عنها، ليس وقتا أتذكر فيه ليالى كثيرة أمضيتها على عوامة صديقة فوق النيل، منها ليلة أقنعنى بها من أعتبره أستاذى بأن أكتب مقالا أسبوعيا. هذا ليس وقتا أقرر فيه فجأة أن ورد القاهرة والمانجو وابتسامة يلقيها بائع متجول وقهوة مع صديقات وبقال الحى ومدخل عمارتى هى أساسيات وليست تفاصيل سوق أشتاق إليها.
***
أغلق صندوقا أسميه صندوق التفاصيل الصغيرة. سوف أتركه فى بيتى فى القاهرة حتى أعود إليه. هذه تفاصيل حياتى هنا كما أحببتها، سأحتفظ بها بعناية، أو ستحتفظ هى بى، وتنتظرنى حتى أعود.