دقوا الشماسى - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:54 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دقوا الشماسى

نشر فى : الأربعاء 26 يوليه 2017 - 9:05 م | آخر تحديث : الأربعاء 26 يوليه 2017 - 9:05 م
يرتبط بدء الإجازة الصيفية بعد انتهاء الدراسة فى ذهنى بمقاطع من أفلام قديمة تصور شبابا وشابات يمرحون على شواطئ رمالها بيضاء وشمسها حامية. النساء جميلات كما ظهرت الممثلات فى الأفلام القديمة، نظاراتهن كبيرة تغطى أجزاء كبيرة من وجوههن، شعورهن تسريحاتها عالية فوق الرأس، كلماتهن تخرج من وراء أيديهن التى وضعنها أمام أفواههن وهن يتبادلن الأسرار. الشباب نحيلو الأجساد كثيفو الشعر، أفواههم تمتط بنصف ابتسامة يشدونها إلى الطرف الأيمن من الوجه وعيونهم فى حالة تأهب مستمر لغمزة جاهزة للاستعمال.
***
أنا لم أعاصر هذه الصور حقيقة لا فى الاسكندرية ولا فى بيروت، لكننى رأيت عددا مهولا من الصور الفوتوغرافية لهاتين المدينتين فى الكتب وفى بيوت أقربائى، حتى تخيلت أن الصيف هو شاطئ البحر الأبيض المتوسط، والإجازة هى مجموعة صديقات وأصدقاء ينسجون قصصا بنكهة المشروبات المثلجة التى يشترونها من بائع متجول، يجوب الشاطئ دافعا أمامه عربة مبردة رسم عليها صور فاكهة كالتوت والليمون والفراولة. أنا لم أكن جزءا من هذه الصور قط، إنما رأيت صور بعض أفراد عائلتى باللونين الأسود والأبيض ثم بالألوان الباهتة بفعل الزمن، وهم يجلسون على الرمل وفى أياديهم الذرة المشوية أو زجاجات المشروبات الغازية التى لم أعد أراها اليوم فى السوق.
***
لا شك أن السينما ونجومها، كما كانوا حاضرين حتى عشرين سنة خلت، قد ساهموا كثيرا فى خلق صورة عند أبناء جيلى حول مفهوم إجازة الصيف، حتى وإن لم يمضوا هم أنفسهم إجازة صيف فى الاسكندرية أو فى بيروت.
أنا متأكدة أن جيل أطفالى مثلا لن يتكون عنده هذا التصور، أولا بسبب بعده الزمنى عن روايات وأفلام وأزياء ذلك العصر، لكن أيضا بسبب تقلص دور الثقافة المنبعثة من المنبر الموحد كالتلفزيون والراديو الوطنيين، اللذين كانا، حتى جيلى وقبل تراجعهما أمام تلفزيونات القنوات الفضائية وأمام المنابر الإعلامية عبر الانترنت، مصدر المعلومات والتسلية والبرامج الوحيدين.
*** 
فكرت وأنا أتابع مسلسلات شهر رمضان المختلفة، وأنخرط فى نقاشات حامية بعدها مع أصدقاء حول الشخصيات والسيناريوهات والإخراج، فكرت كيف كنت فى طفولتى أتابع، مثل كل من فى سنى بل ومثل من هم فى سن والدى، كنت أتابع المسلسل اليومى الذى تبثه قناة التلفزيون الوطنية، وأناقشه مع أطفال المدرسة كما أسمع أمى تناقشه مع صديقاتها. ثم إننى كنت أحفظ كلمات وموسيقى مقدمات المسلسلات التى غالبا ما كانت تتحول إلى موسيقى ترفيهية يتم بثها فى بهو الفنادق الكبيرة.
اليوم يشاهد كل فرد ما يحب من مواد ترفيهية أو برامج على شاشته الخاصة فى الوقت الذى يناسبه. لقد خرجنا من حقبة التسلية الموحدة والتوقيت الموحد للمسلسلات اليومية. وخرجنا فى الوقت ذاته كثيرا من نوع من الوعى الجماعى الناتج عن تعرض مجتمع بأكمله لصورة قد تكون منتقصة أو محدودة عن المجتمع، إذ إنها قد لا تنطبق على قطاع كبير من الناس فى البلد ذاته. اليوم قد يلمع نجم أو تشتهر بطلة، قد تظهر مسلسلات يشاهدها عدد كبير من الناس مثل مسلسل لعبة العروش حاليا، ولكن ذلك يحدث وفقا لخيار من يشاهدها، بمعنى أن يكون هناك قرار فردى بتحميل المسلسل من على شبكة الانترنت مباشرة إلى شاشة الشخص الخاصة. وبذلك تتقلص كثيرا إمكانية أن تتكون فكرة نمطية عن الصيف أو الاسكندرية أو شباب وشابات عصر ما.
***
ألاحظ مثلا أننى لا أتوقف عن محاولاتى أن أجذب انتباه أولادى إلى برامج وشخصيات قد ساهمت فى تشكيل وعيى عن الفن والسينما والموسيقى، فأعلم أطفالى كلمات أغنية «فطوم فطوم فطومة» لدريد لحام، إذ ليس هناك سورى أو سورية من جيلى أو أكبر لا يعرف الكلمات عن ظهر قلب، فالأغنية جزء من الذهنية السورية على جميع اختلافاتها. وكذلك الحال مع أغنية «تك تك تك يا أم سليمان» لفيروز، فأنا أظن أن كل أم مشرقية قد غنتها لأطفالها. كما أننى أضع أطفالى أمام فوازير نيللى أو شيريهان التى كانت تشدنى وتشد الكثيرين فى وقتها. أقترح أيضا على أولادى مشاهدة ولو أجزاء من أفلام قديمة يظهر فيها مثلا اسماعيل ياسين أو مسرحيات لفؤاد المهندس، فأراقص ابنتى على أغنية «يا حتة مارون غلاسيه»، دون أن يظهر على أى من أطفالى الثلاثة أى حماس أو حتى اهتمام ذى شأن.
***
أتأرجح بين ضيقى من عدم اهتمام أطفالى بما أعتبره جزءا من هويتى، وبين ضيقى من اضطرارى أن أعترف أننى من جيل مضى، جيل استعمل شرائط الفيديو ثم أسطوانات الليزر وجلس بصبر ينتظر مسلسل رأفت الهجان. أضيق بالفكرة لأنها تجبرنى على مواجهة مضى الوقت ومعناه على عمرى وعلى حياتى. أنا لم أنتمِ إلى جيل «دقوا الشماسى»، لكننى ورثت حبى لتلك الفترة من والدى اللذين عاصراها. لا أستطيع أن أحدد ما الذى أورثه لأطفالى اليوم، إذ إننى أنتمى الآن إلى عصر الخيارات وإلى عصر تغيرت فيه كثيرا أساليب الحياة من بلد إلى آخر ومن مجموعة داخل المجتمع إلى أخرى.
ربما أكثر ما يثير ضيقى هو أننى لم أنتمِ إلى جيل «دقوا الشماسى»، لكننى أسترق السمع إلى أطفالى حين يتكلمون مع أصدقائهم عن «على وقت ماما وبابا»، وكأننا من عصر سابق... ثم أتذكر أننى كنت أقول الشىء ذاته عن أمى وأبى.

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات