على مدى الأسبوع الماضى سلطت وسائل إعلام عراقية وعربية الضوء على قضية «قاتل برىء»، صدر ضده حكم قضائى بالإعدام عقب اعترافه بقتل زوجته، حتى عادت الزوجة من «رحلة الموت» الافتراضية، لتحل حبل المشنقة عن زوجها المُدان، وتدين فى ذات الوقت الأجهزة الأمنية والنظام القضائى فى ذلك البلد العربى الذى بشرته العناية الأمريكية بالحرية والديمقراطية والعدالة قبل نحو عقدين.
القصة التى سرد تفاصيلها الزميل الصحفى فاضل النشمى فى جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية، بدأت فى إبريل الماضى، عندما اختفت زوجة المدان السابق والبرىء الحالى المواطن العراقى على الجبورى الذى يعمل جنديا ضمن صفوف الجيش العراقى ويؤدى خدمته فى مدينة الرمادى.
أجهزة أمن محافظة بابل التى شهدت وقائع القصة، طبقت القواعد الأمنية المتعارف عليها فى المنطقة العربية، واتهمت الزوج وضيقت عليه الخناق، فأنكر فى البداية وأكد أنه لا يعرف كيف اختفت زوجته، لكن تحت وطأة الترهيب والتعذيب قرر المجبور على أمره الاعتراف بجريمة لم يقترفها، فالموت شنقا أحن وأرحم عليه من مجادلة زبانية الأمن وإنكار التهمة التى قرر هؤلاء إثباتها عليه.
اختار الجبورى أن يُحكم عليه بالموت، ففى حجرة الإعدام سيتدلى جسده مرة واحدة من حبل المشنقة لتفارق روحه الحياة دون ألم يذكر، لكن فى حجرة التحقيق كان جسده يتدلى كل يوم مرات ومرات وتكال له صنوف العذاب، لدرجة أنه كان يدعو الله أن يقبض روحه ويرفعها إلى جواره فمع الله ذلك أفضل.
ولكى يرحم الجبورى جسده المنهك من حفلات التعذيب اليومية، قرر الاعتراف بجريمة لم يرتكبها، وعقب توقيعه على محضر الاعتراف اقتاده قائد شرطة بابل إلى محل الحادث لإجراء «كشف دلالة» الذى نطلق عليه إعادة تمثيل الجريمة.
اصطحبت قوات الأمن إلى محل الجريمة مقدم برامج بإحدى الفضائيات المحلية، وتم تسجيل اعترافات الجبورى بالصوت والصورة، ثم أعيد بثها فى المساء مع مداخلات تلفزيونية لقائد الشرطة الهمام الذى فك شفرة القضية الغامضة.
أُحيلت القضية إلى المحكمة، ورغم الثغرات العديدة فى ملف القضية، إلا أن هيئة المحكمة لم تشكك ولو للحظة فى تقارير الأمن أو الطب الشرعى، ولا فى اعترافات الجبورى الذى أقر بقتل زوجة لم تظهر لها جثة، وأصدر القاضى بعد نحو 5 شهور حكمه وهم مطمئن الضمير بإعدام برىء.
الأسبوع الماضى عادت الزوجة فجأة من «رحلة الموت»، وتوجهت إلى محكمة التحقيق لتروى ما جرى، لتقرر المحكمة إطلاق سراح الزوج الذى شهد الموت مرتين، الأولى عندما أُجبر عن طريق التعذيب الوحشى على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها، والثانية عندما سمع حكم القاضى بإعدامه.
رئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى قرر فتح تحقيق مع كل المسئولين الذين تتعلق مسئولياتهم الوظيفية بتوجيه الاتهام للزوج، كما قرر تعويض الضحية عن الإضرار المادية والنفسية التى لحقت به، ولاتزال التحقيقات مع المسئولين جارية حتى كتابة تلك السطور.
القضية التى احتلت مساحة كبيرة من المتابعات الإعلامية خلال الأيام الماضية، فتحت ملف مدى كفاءة ومهارة المنتسبين إلى الأجهزة الأمنية والسلك القضائى ليس فى العراق فقط بل فى المنطقة بأسرها، تلك الأجهزة التى نتيجة لغياب الرقابة والمساءلة استسهلت تعذيب المتهمين لإجبارهم على الاعتراف بجرائم حتى لو لم يرتكبوها.
المنظمات الحقوقية العربية والدولية اتكأت على تلك الواقعة، ولها الحق، لتفتح ملفات التعذيب الممنهج الذى تمارسه أجهزة الأمن فى عدد كبير من دول المنطقة، كما طالبت تلك المنظمات بإعادة النظر فى عقوبة الإعدام التى تطبقها كل الدول العربية، وأظنها محقة فكم من مدان تم إعدامه أو حتى حبسه بناء على اعترافات جرى انتزاعها تحت وطأة التعذيب.
انتهت قصة الجبورى، لكن يظل ملف التعذيب الممهنج فى مقار الأجهزة الأمنية، وعدم كفاءة بعض أعضاء السلك القضائى مفتوحة، ولن تغلق إلا بالشروع وسريعا فى إقامة أنظمة ديمقراطية تحترم حقوق المواطن وتصون كرامته، أنظمة تقبل الخضوع للمساءلة والرقابة، أنظمة تقدم أمن المجتمعات واستقرارها على أمنها واستمرارها.