لماذا يجب أن نحب الصناعة؟ - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:08 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لماذا يجب أن نحب الصناعة؟

نشر فى : الإثنين 26 سبتمبر 2022 - 9:25 م | آخر تحديث : الإثنين 26 سبتمبر 2022 - 9:25 م
التطورات العنيفة التى يشهدها العالم من جوائح وصراعات وأزمات اقتصادية متلاحقة تتسارع بفعل سرعة تدفق المعلومات. والمآلات الحتمية للنظام الرأسمالى، الذى تعلمنا أنه يحمل فى طياته عناصر هدمه. تدلنا جميعا على حقيقة واحدة؛ أن تحقيق قدر من الاكتفاء الذاتى من المتطلبات الأساسية للشعوب لم يعد ترفا، بل هو ضرورة للبقاء. تشير التقديرات إلى أنه اعتبارًا من أواخر عام 2003، كانت واحدة من كل خمس دول فى العالم فى حالة حرب، ناهيك عن الحرب العالمية على الإرهاب... هذا بالطبع يخلق حالة من عدم الأمان النظامى لجميع المتأثرين بشكل مباشر أو غير مباشر، والتى لا يمكن التعامل معها بشكل مناسب من خلال الأنظمة التقليدية للحماية الاجتماعية. كذلك تتسبب تلك الحروب فى تعطّل حركة التجارة، واضطراب سلاسل الإمداد، وعدم أهمية الفوائض النقدية والثروات الخام غير المصنّعة فى إشباع حاجات المواطنين، إذ إنه لا يمكن استخدام تلك الثروات فى عمليات التبادل التجارى المعطّلة بفعل الأزمات، ولا بديل عن استغلالها محليا لإشباع الحاجات.
نظريا، تعتبر دول مجلس التعاون الخليجى من بين الدول الأكثر أمانًا للغذاء وفقًا لمؤشر الأمن الغذائى العالمى، والذى يأخذ فى الاعتبار مدى توافر الإمدادات الغذائية والقدرة على تحمل تكاليفها وجودتها وسلامتها. وعلى الرغم من ذلك، تفتقر المنطقة إلى السيطرة على مصادرها الغذائية، وتظل معتمدة بشكل كبير على الاستيراد. تستورد دول مجلس التعاون الخليجى حوالى 85٪ من غذائها، وتشكل واردات الأرز تقريبًا كل الاستهلاك، وحوالى 93٪ من الحبوب، و62٪ من اللحوم و56٪ من الخضراوات. من الطبيعى أثناء حدوث اضطراب فى سلاسل التوريد، نتيجة الأوبئة والظروف الجيوسياسية، فإن هذا الاعتماد على الواردات يترك البلدان عرضة للأزمات الغذائية.
• • •
ليس الإنتاج الزراعى فحسب هو المسئول عن تحقيق الأمن الغذائى، بل إن الصناعات الغذائية وصناعة الأسمدة والصناعات الهندسية المرتبطة بالميكنة الزراعية وشبكات الرى... كلها أيضا يساهم عدم توطينها (ولو إقليميا) فى انخفاض مستوى الأمن الغذائى، والأمن الاقتصادى بصفة عامة.
یؤدى عدم استغلال الثروات والموارد الطبیعیة، وفقدان العدالة فى توزيع عائداتها على المجتمع، إلى إضعاف الوضع الاقتصادى للدولة، ویشیر إلى تدنى قدراتها الاستراتيجية والسیاسیة والاقتصادية. وثمة دول لم تستغل ثرواتها على الرغم من حاجتها الماسة إلیها. وقد أشار تقریر الأمم المتحدة للعام 2009 إلى أن الثروة النفطية لدى بعض البلدان العربية تعطى صورة مضللة عن الأوضاع الاقتصادية لهذه البلدان، لأنها تخفى مواطن الضعف البنيوى فى العديد من الاقتصادات العربية، وما ینجم عنها من زعزعة الأمن الاقتصادى للدول والمواطنين.
الناتج الصناعى فى مصر والذى سجل ما قيمته 942.4 مليار جنيه عام 2019 /2020، مقارنة بنحو 847.2 مليار جنيه عام 2018 /2019، و357.3 مليار جنيه عام 2013 /2014، مازالت مساهمته متواضعة فى الناتج المحلى الإجمالى إذ لا تتعدى نسبته 11,7% على الرغم من استيعاب هذا القطاع الحيوى لحوالى 28.2% من إجمالى العمالة المصرية. كذلك بلغت استثمارات القطاع الصناعى حوالى 49 مليار جنيه خلال العام المالى (2020 /2021) وهو ما يمثل حوالى 6% فقط من إجمالى الاستثمارات العامة فى ذلك العام. ووفق بيانات وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية، فإن المرحلة الثانية من البرنامج الإصلاحى سوف تركز على ثلاثة قطاعات خلال السنوات الثلاث القادمة، وهى الصناعات التحويلية كثيفة التكنولوجيا، وقطاع الزراعة، وقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. ومن المتوقع أن يعمل البرنامج من خلال 10 محاور فى هذه القطاعات. تستهدف الحكومة زيادة الوزن النسبى لقطاعات الصناعات التحويلية، والزراعة، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لترتفع مساهمة القطاعات الثلاثة فى الناتج المحلى الإجمالى من 26% خلال العام 2019 و2020، إلى ما بين 30 إلى 35% خلال العام 2023 و2024.
ويتضح من تلك الخطة الطموح إدراك صانع القرار المصرى لأهمية الصناعات عالية التقنية والتى كان تأثير الجائحة عليها إيجابيا عالميا كما تقدمت الإشارة. كذلك تتضح الرغبة المصرية فى توطين الصناعات وسلاسل الإمداد، على نحو ما اتجهت إليه عدد من الدول الكبرى وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا للحد من الآثار السلبية للحروب التجارية، وحروب العملات فضلا عن الكوارث الطبيعية والجوائح والتوترات الجيوسياسية.
• • •
مازالت أبرز تحديات الصناعة فى مصر تتركّز فى تعدد جهات الولاية على الأراضى الصناعية، وتعدد الموافقات والتراخيص، وارتفاع تكلفة الأرض الصناعية المرفقة، وتقلّب أسعار الطاقة، وعدم توافر المواد الخام ومدخلات وخطوط الإنتاج مع وجود أزمة فى الاستيراد بفعل ندرة النقد الأجنبى، فضلا عن غياب العمالة المدربة مع استمرار هجرة العقول النابغة التى أصبح تصديرها هاما لزيادة تحويلات العاملين من العملة الصعبة، ولكن تعويض بعضها لن يتحقق إلا بتكلفة أكبر وبعملة أصعب، حال تراجع أداء القطاعات الحيوية فى البلاد على خلفية طرد العملة الرديئة (والمقصود بها هنا العمالة غير المؤهلة) للعملة الجيدة فى الأسواق.
كذلك تغيب محفزات الصناعة فى وقت تجنى فيه أنشطة الاستثمار العقارية الريعية عائدات كبيرة للغاية على الاستثمار. كذلك يحقق المستثمرون فى أدوات الدين والودائع محدودة المخاطر إيرادات كبيرة فى عالم تسوده حالة من عدم اليقين، وتجتاحه موجات من التشديد النقدى (أبرز ملامحه رفع أسعار الفائدة) فى محاولة لامتصاص الصدمات التضخمية المنتشرة شرقا وغربا.
ولأننا دولة نامية واقتصاد ناشئ فنصيب الصناعة والزراعة من الناتج المحلى الإجمالى يجب أن يكون أكبر من مثيله فى الدول المتقدمة، التى حققت مستوى معيشة مرتفعا لمواطنيها الذين تحولوا من استهلاك السلع المادية الأساسية إلى استهلاك الخدمات والسلع الرفاهية. من ثم فلا ينبغى أن نراهن على مواكبة الاقتصادات المتقدمة فى قفزة واحدة! بل هناك من مراحل التطور ما يجب أن نمر عليه. هذا الأمر نجده ماثلا فيما تعانيه إفريقيا اليوم وهى تدافع عن حقها فى استخدام مشتقات الوقود الأحفورى، لزيادة نصيب الفرد من الكهرباء، بينما تحاول الدول التى يصل فيها نصيب الفرد من الكهرباء عشرات أضعاف مثيله فى إفريقيا إقناعها بالتحول إلى مصادر الطاقة البديلة، دون اعتبار إلى متطلبات التنمية فى الدول الفقيرة. كان ذلك على أية حال أحد أسباب الخلاف فى قمة المناخ السابقة COP26 لكن الحرب فى أوكرانيا وما تسببت فيه من أزمة فى الطاقة، أدت إلى نكوص أوروبا ذاتها عن تعهدات التخلى عن الوقود الأحفورى والفحم إلى حين.
• • •
لا أمل من تكرار الحديث عن تلك المشاهد التى لا أنساها، فقد كنت حريصا على استطلاع رأى وزراء صناعة سابقين عن رأيهم فى أكبر تحديات الصناعة، وقد كان اتفاقهم غريبا فى أن الدولة لم تكن تحب الصناعة! علما بأنهم قد عملوا تحت قيادات مختلفة وفى ظروف متباينة. تفسيرهم لهذا يأتى من منطلق تفضيل كثير من الحكومات التى عملوا فى ظلها للمكسب السريع، علما بأن الصناعة ليست نشاطا سريع الربحية، بل هى نشاط يحقق التنمية المستدامة ويضمن التشغيل والاستقرار المجتمعى، ويعزز من فرص تحقيق الاكتفاء الذاتى والإحلال محل الصادرات والتوجّه للتصدير.
ولا يمكن أن يتحقق الأمن الاقتصادى والضمان الاجتماعى دون النجاح فى تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة من خلال: توطين وتعميق الإنتاج الزراعى والصناعى، وتحسين مستويات المعيشة والارتقاء بنوعية حياة الناس، وتوفير فرص العمل وضمان المساواة فى الوصول إلى الوظائف والدخول، وإيجاد نظم وشبكات فعالة للضمان الاقتصادى والتكافل الاجتماعى، وتنمية مهارات قوة العمل بالتدريب والتأهيل المستمر حتى تستطيع هذه القوة مواكبة أى تطور فى اقتصاد الدولة.
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات