تفسيران يتيمان يمكن من خلالهما فهم خفايا التصريحات العنترية التى أطلقتها إثيوبيا ردا على ما قاله الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بأن من حق مصر تفجير سد النهضة، فما قاله آبى أحمد رئيس الوزراء الاثيوبى بأنه لا توجد أية قوة فى العالم ستمنع بلاده من استكمال بناء السد، لا يعدو أن يكون سوى رهان على خسارة ترامب انتخابات الرئاسة الأمريكية، أو أنه يعتبر أن تصريحات ترامب ليست سوى نوع من الضغط على حكومته لتأخذ الحقوق المصرية فى النيل فى اعتبارها خلال المفاوضات!
لكن فى كلتا الحالتين لا يدرك آبى أحمد أن أسلوب الخبث والمراوغة الذى ينتهجه فى المفاوضات مع مصر، وتضليل العالم بأنه جاد فى هذه المفاوضات، لن يؤدى فى نهاية المطاف إلا إلى إقدام القاهرة على اتخاذ كل الإجراءات الممكنة للحفاظ على حقوقها وقبل ذلك على حياة أكثر من 100 مليون مصرى من خطر الموت جوعا وعطشا، سواء فاز ترامب بالانتخابات أو خسرها.
فى كل الأحوال، يبدو عنصر الوقت هو العامل الحاسم أمام مصر لكى تحافظ على حقوقها فى النيل، فتصريحات ترامب ورقة ضغط مهمة فى المفاوضات الشاقة مع إثيوبيا، لأن رئيس أكبر وأقوى دولة فى العالم يعطينا الضوء الأخضر لحل هذا الملف عسكريا، لكن علينا أيضا أن ندرك أن سقوط ترامب فى الانتخابات سيعد انتصارا لإثيوبيا لأننا لا نضمن أن الرئيس الجديد جو بايدن سيتخذ نفس موقف ترامب، فى نفس الوقت فإن نجاح إثيوبيا فى تخزين المزيد من المياه خلف السد سيقلل كثيرا من فرص استهدافه.
آبى أحمد نفسه لا يستبعد نشوب «حرب كبيرة» بين مصر وإثيوبيا، وليست فقط مجرد عملية صغيرة ضد السد، فقد قال وكأنه يهذى إن الدول الكبرى عجزت طوال التاريخ عن احتلال بلاده، وكأنه يتصور أن مصر تخطط لاحتلال إثيوبيا، أو هكذا أراد أن يبيع لشعوب إثيوبيا بضاعة فاسدة بأنهم يواجهون أخطارا خارجية خطيرة يتصدى هو لها ببسالة زائفة، لعلها تنفعه فى الانتخابات النيابية التى يسود الغموض موعد إجرائها، وسط مناخ سياسى يسوده الاحتقان ورغبة بعض الأقاليم فى الانفصال!
الثابت حتى الآن أن إثيوبيا لن تغير استراتيجياتها وتكتيكاتها التفاوضية معنا، هى ببساطة تريد استغلال سلاح الماء لتصبح دولة إقليمية عظمى حتى ولو على حساب حياة ملايين المصريين، كما أن حكامها يعتقدون أن «هزيمتهم» فى معركة السد إن سلما أو حربا ستؤدى لزيادة التوترات العرقية فى اثيوبيا بما يهدد بانهيار الدولة نفسها، وكأن هؤلاء الحكام يفرضون على مصر خيارا واحد وهو اللجوء للقوة العسكرية مهما كانت العواقب وخيمة عليهم!
قد نضطر فعلا لاتخاذ أى اجراء لحماية حقوقنا، لكننا فى الأساس مطالبون بتقديم نموذج جذاب لمشروع إقليمى ضخم للتنمية بين كل دول حوض النيل، واستغلال كل موارها المتاحة لتحقيق الرفاهية لشعوبها، ليس فقط لكى نكشف زيف الحجج الإثيوبية وراء بناء السد كمشروع تنموى قومى لها، ولكن لكى نوفر حياة كريمة لشعوب الإقليم، وهو التحدى الحقيقى الذى ينبغى ان نضعه امامنا طوال الوقت.