بعد قرون طويلة من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية ومذهب الإمبراطورية الرومانية المقدسة على معظم أوروبا، تقول الرواية السائدة إنه فى أحد أيام خريف سنة 1517 وتحديدا فى اليوم الأخير من شهر أكتوبر، توجه الراهب «الإصلاحى» مارتن لوثر المدعوم سياسيا من حاكم مدينة ألمانية صغيرة تسمى فيتنبرج، يحمل مطرقة ومسامير وخمسة وتسعين منشورا مناهضا لممارسات الكنيسة الكاثوليكية ليعلقها بنفسه على أبواب وجدران كنيسة قلعة المدينة. ولم ينس لوثر أن يرسل بنسخة من الأطروحات لكبير أساقفة مدينة ماينز التابع لها كنسيا. وقد كان لوثر البالغ من العمر يومئذ أربعة وثلاثين عاما كاهنا كاثوليكيا متدينا، وأستاذا للاهوت فى جامعة المدينة.
كان هدف المنشورات أو الأطروحات فى البداية الدعوة للإصلاح والنقاش حول ممارسات الكنيسة، خاصة فيما يتعلق باستغلالها للدين لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، مثل بيعها لصكوك الغفران، وقيامها بدور الوسيط بين الإنسان والرب. وقد ساعد ظهور المطبعة والكتابة باللغات المحلية بدلا من اللاتينية على انتشار أفكار لوثر فى ألمانيا، وكل أنحاء أوروبا بسرعة لافتة، لتتحول الدعوة إلى حركة تمرد واسعة على سلطة الكنيسة ونفوذها الدينى والاقتصادى والسياسى. وقد أفضى ذلك الحراك إلى ميلاد مذهب لاهوتى جديد أخذ اسمه من التمرد والرفض وهو المذهب البروتستانتى.
وكان كبير الأساقفة فى ألمانيا (الحالية) والبابا ليو العاشر يدركان صحة نقد لوثر، وخطورته فى الوقت ذاته، لذا سارعت الكنيسة الكاثوليكية فى المقاطعات الألمانية وروما فى صيف عام 1519 إلى إرسال كبار رجال الدين لمناظرة لوثر حول أفكاره فى مدينة ليبزيج. ولم تستمر الجلسات طويلا حيث كان واضحا أن الإصلاحى لوثر لن يتراجع عن أفكاره، فما كان من الكنيسة والإمبراطورية الرومانية إلا أن وصمتا لوثر بالهرطقة والزندقة، واتهمتاه بالتمرد والخروج على القانون. وفى ظل الانتشار السريع لأفكار الإصلاح، وفشل الكنيسة فى احتوائها، اندلعت صراعات وحروب دينية وقومية، شملت جميع أرجاء القارة العجوز، واستمرت ثلاثين عاما. ونتيجة الخسائر الفادحة لهذه الحرب الضروس كانت أوروبا على موعد فى مقاطعة بروسيا لتوقيع (صلح وستفاليا) فى خريف عام 1648، وهو الصلح الذى أنهى نسبيا الحروب الدينية، وأقر حرية الأفراد فى اختيار مذاهبهم وممارسة شعائرهم الدينية.
لقد اختلف الدارسون فى النظر إلى طبيعة حركة الإصلاح الدينى وأهدافها، فالبعض اعتبرها إصلاحا دينيا خالصا، وتمردا على فساد الكنيسة الكاثوليكية آنذاك. والبعض نظر إليها بوصفها حراكا اقتصاديا سياسيا ينقل سيطرة الكنيسة على الثروة إلى سيطرة الأمراء. بينما ذهب فريق آخر إلى كونها طموحا سياسيا قوميا ألمانيا بالأساس، ومحاولة لإبعاد الكنيسة عن شئون الحكم والسلطة، حيث أكد لوثر على حق الدولة ومؤسساتها فى ممارسة سلطتها على الكنيسة. وهذا ما يهمنا فى هذا المقال، فقد كانت البروتستانتية نقطة تحول فى التاريخ ليس على مستوى اللاهوت، وإنما فى الفكر والسياسة والاجتماع، فقد مهدت الطريق لنشر الأفكار القومية، وساعدت على ظهور مفهوم الدولة الحديثة كما نعرفها اليوم، كذلك هيأت البيئة الأوروبية لقبول أفكار التحديث، والنقد، والعلمانية، والتنوير.
وقد شهدت القرون اللاحقة لظهور حركة الإصلاح فى أوروبا أفكارا تناهض سيطرة الكنيسة على حياة الفرد والمجتمع والدولة، وتبنت السلطات والنخب الحاكمة أشكال حكم مدنية/علمانية، أمام تراجع واضح لنفوذ الكنيسة، مما جعل كتابات فلاسفة التنوير تسابق الزمن، لخلق معادلة جديدة تحسم علاقة الدين بالدولة.
• • •
بالتأكيد لم تكن حركة الإصلاح الدينى العامل الوحيد وراء تراجع سلطة الكنيسة وعلمنة المجتمعات الأوربية، فلا شك أن الثقافة الغربية فى أصولها الإغريقية والرومانية كانت تحمل قيما علمانية. بل إن الدين والكنيسة، والعمارة، وملابس الكهنة، وتراتبية الكهنوت قد تأثرت بالثقافتين الإغريقية والرومانية لدرجة تمكننا من القول إن أوروبا أنتجت نسخة غربية من المسيحية. بل إن عصر النهضة نفسه، قد رجع إلى هذا التراث اليونانى واللاتينى، واستلهم أفكاره الفلسفية، وأعاد اكتشافها. كذلك لا يمكن التقليل من شأن وتأثير التحولات الرأسمالية، وقيم الفردانية، والانتقال من النظام الإقطاعى إلى مؤسسات الدولة. ذلك فضلا عن التحولات الاجتماعية التى شهدتها أوروبا أثناء الثورة الصناعية وما تلاها. ساعدت تلك العوامل وغيرها فى تحول أوروبا، ومستعمراتها فى «العالم الجديد» لاحقا إلى مجتمعات تفصل الدين عن الدولة فى الدساتير والقوانين.
لقد بات جليا انتصار العلمانية على الكنيسة خاصة فى أوروبا الغربية خلال عصر النهضة، وصار كل علم، وفكر، وفلسفة، وتقدم، وعقلانية يعنى فى قاموس النهضة «العلمانية»، وفى المقابل أصبح الدين يعنى الأسطورة، والخرافة، والجهل، والرجعية مع وجود استثناءات قليلة يمكن أن نجدها فى أعمال إيمانويل كانط وجون لوك. وقدمت فرنسا الكاثوليكية مع نجاح ثورتها عام 1789 نموذجا علمانيا متشددا عرف لاحقا بالعلمانية اللائكية. وتراجعت بشدة أعداد مرتادى دور العبادة، وتلاشت تقريبا إقامة الطقوس، والشعائر الدينية، وفقد الناس شغفهم باللاهوت والعقائد. ومع مرور الوقت أصبحت أوروبا والغرب إجمالا فى مخيلة معظم سكان كوكب الأرض مجتمعات علمانية لا تؤمن بالدين، وأن الإله قد مات لديها على حد تعبير الفيلسوف الألمانى نيتشه.
معظم المؤرخين والمفكرين الذين تناولوا عصر النهضة وتاريخ الغرب أكدوا على الثنائيات السابقة ويعتبر الأكاديمى البريطانى جراهام سميث واحدا من الذين خالفوا هذا الطرح فى كتابه الذى صدرت ترجمته عن المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات، حيث يعارض فكرة كون العلمانية الغربية تعنى مناهضة الدين وإقصائه، بل يرى أن الدين لم يختف من حياة الغرب على الإطلاق، وإنما الذى اختفى هو التركيز على العقائد اللاهوتية، وسيطرة الكنيسة على الفرد والمجتمع والدولة. فمعظم أفراد الشعوب الأوروبية الغربية التى نعدها علمانية تعرف نفسها بأنها مسيحية ومؤمنة، وأن الإلحاد فى أعلى نسبه لا يزيد عن 30٪ وفقا للدراسات والإحصاءات التى اعتمد عليها، رغم تراجع نسبة ارتياد الكنائس عما كانت عليه فى العصور الوسطى، وعدم اكتراث معظم المسيحيين الغربيين بالنقاش حول قضايا اللاهوت، والعقائد المسيحية، والتفسير الدينى لنشأة الوجود مثل الماضى، ولكنهم يرتبطون ارتباطا أخلاقيا وسلوكيا وهوياتيا بالدين.
• • •
الحقيقة أن ما ذكره الكاتب هو أحد التعريفات الأساسية للعلمانية، وهو بقاء الدين سلوكا فرديا لا يؤثر على حياة المجتمع، فأنت كمسيحى متدين يمكنك أن ترفض نظرية النشوء والارتقاء لداروين، ولكن كمدرس لا يمكنك أن تشكك فيها أمام الطلاب. ومرد ذلك ليس العلمانية بمفردها، فالفردانية والخصوصية التى ميزت الفلسفة البرجماتية، قد جعلت المنتمين إلى الثقافة الغربية بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم أقل تعبيرا وإفصاحا عن أفكارهم ومعتقداتهم.
حتى إن اتفقنا مع طرح الكاتب، فمن الواضح أن الاتجاه نحو الدين بوصفه هوية، وسلوكا، وممارسة، وسياسة واقتصادا فى معظم المجتمعات الغربية فى تصاعد خلال العقود الأخيرة. فحركة التاريخ لا تتوقف، ودورة التغيير فى حياة الإنسان لا تجرى فى اتجاه واحد مرسوم ومتوقع، كما تصور فرنسيس فوكوياما ذات يوم بأن للتاريخ نهاية، فالاتجاهات المحافظة، والأصولية، والحركات الدينية الإحيائية، والحروب الثقافية فى صعود، خاصة فى الولايات المتحدة التى تعد استثناء غربيا، فعادة ما ينظر إلى الولايات المتحدة تاريخيا بأنها أكثر تدينا، أو أقل علمانية من أوروبا الغربية. فهى من أكثر الدول الغربية ارتباطا بالدين، وجدلا حول قضايا الإجهاض، والميول الجنسية، ونظرية الخلق وغيرها، مما يميزها عن باقى المجتمعات الغربية. ويكفى أن نتابع دور الدين فى أوساط الإنجيلين البروتستانت، الذين يبلغ تعدادهم نحو 100 مليون شخص، أى ثلث عدد سكان الولايات المتحدة، ويقطنون مناطق شاسعة من الجنوب الأمريكى، والغرب الأوسط تعرف باسم حزام الكتاب المقدس.
والمفارقة فى سياق الولايات المتحدة أن الطائفة الإنجيلية الأصولية تسعى بشغف لمنح الدين سلطة ونفوذا وسيطرة على الدولة والمجتمع بعد 500 سنة من تمرد أجدادهم البروتستانت من أتباع لوثر فى أوروبا على الكنيسة الكاثوليكية لنفس الأسباب.
وحتى فى أوروبا الغربية تتراجع مظاهر العلمانية، ففرنسا ذات العلمانية العتيدة تكشف فى المواقف الجدلية وفى أوقات الأزمات الثقافية عن وجهها الكاثوليكى على حد تعبير سناء الخورى مراسلة الشئون الدينية لهيئة الإذاعة البريطانية. وفى ألمانيا تزداد جماهيرية اليمين الذى يخلط الدين بالقومية. وفى هولندا التى كانت مثالا للعقلانية أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة اتجاهها نحو اليمين والشعبوية بصورة ملفتة. وتقريبا ينطبق الأمر نفسه على إيطاليا، حتى الدول الإسكندنافية التى تعرف بأنها أقل شعوب أوروبا ارتباطا بالدين تتغير مع انتشار الأفكار والممارسات الشعبوية.
لا أقصد هنا عودة الغرب إلى الحالة الدينية التى عاشها فى عصوره الوسطى، ولا أدعى أن العلمانية تلاشت فى المجتمعات الغربية، بزعم أن الدين فقط هو السبب فى اتجاه الغرب نحو اليمين والقومية والشعبوية. ولكن أحاول أن أقدم صورة واقعية لعلاقة الدين بالفرد والمجتمع والدولة، حيث أن هناك مبالغة أيضا فى تصوير الغرب على أنه علمانى، لا دينيا. وربما يكون مبعث هذه المبالغة تصور أن الغرب هو المدن الكبرى الكوزموبوليتنية التى تتنوع فيها الأديان والأعراق والثقافات مثل لندن وباريس ونيويورك. كذلك فإن النافذين والمشاهير وقادة المجتمع فى مجال الفكر، والثقافة، والإعلام، ونجوم الفن، والرياضة غالبا ما يكونون علمانيين أو يحاولون الظهور هكذا.
وفى الختام يمكننا القول إن علاقة الدين بالمجتمعات الغربية تتفاوت مكانيا وزمانيا، رغم أنها لم تنقطع يوما، وإنما تغير شكلها، وتراجع تأثيرها فى قرون النهضة والتنوير. مع وجود موجات من العودة للدين والتمسك به بشكل دائم. وفى ظنى أن الحروب الثقافية وصراع الحضارات، والتغييرات الديموغرافية فى المجتمعات الغربية مع حركة الهجرة واللجوء، تساهم فى تآكل هامش العلمانية، وتزيد من ارتباط المجتمعات الغربية بالدين على الأقل على مستوى السياسة والهوية، وذلك حتى إشعار آخر.