كثيرا ما كان يتملكنى شعور بالغيظ عندما أستمع إلى أحد كبار فنانينا يشكو من أن الشهرة أفسدت حياته وقيدت قدرته على التحرك بحرية، وكنت أقول هو سَعَى إلى الأضواء قبل أن تسعى إليه، وهو يأخذ فى الذبول فى اللحظة التى تنحسر فيها عنه الأضواء فما الداعى إذن إلى الضجر؟ لم أكن أعرف أن التطور المذهل فى تكنولوجيا الاتصال والحرب على الإرهاب والجريمة سوف يُحولاّنا إلى كائنات منزوعة الخصوصية مفتعلة السلوك رغم أنها غير مشهورة .
فى كل مرة أشارك فيها فى ندوة علمية تغطى وقائعها قناة فضائية، يداخلنى إحساس بأننى أمثل وكل من فى القاعة يمثلون، وأننا لو تُركنا على سجيتنا لقلنا غير ما نقول أو بعضه، ولتصرفنا على غير النحو الذى تصرفنا عليه ولو بشكل جزئى. أفهم جيدا كمعلمة أن إيصال الرسالة المطلوبة بنجاح يتطلب شيئا من المهارة فى التمثيل . لكن يوجد فرق شاسع بين أن نُمثلّ لنقنع الآخرين وأن نُمثلّ لأن الآخرين يروننا.
مؤكد أن المشارك فى ندوة من هذا النوع لن يقول كل الحقيقة لأنه يعلم أنه يُرى ويُسمع، وأنه سوف يدخر بعض معلوماته أو آرائه للغرف المغلقة و غداءات العمل و عشواته. ومؤكد أن بعض الجمهور المستمع لهذا المشارك عندما يومئ بالقبول أو يشير بالرفض و هو شاخص إلى الكاميرا لا يستحسن الحديث أو يستهجنه بالضرورة، لكنه يوجه بوصلة انفعالاته فى اتجاه يُعجِب المشاهدين فى البيوت.
إحساس غير مريح بالمرة أن تفعل ما يتوقعه الآخرون وليس ما تريد أنت نفسك أن تفعله. أن تطلب الكلمة معلقا حتى لا تظهر فى دور الكومبارس الصامت ، وأن تمتنع عن إبداء ملاحظة جانبية لجارك على النقاش كى لا تعطى الانطباع بأنك تثرثر، وطبعا ألا تقرأ رسالة تليفونية من ابنك أو عزيز لديك يطمئنك على أنه سافر بسلام لأنه لا يجوز أن تمر عليك الكاميرا بينما أنت تنظر فى شاشة الموبايل.
حضور الندوات ترف لا يملكه كثيرون ومن السهل أن يتخلى عنه كثيرون، لكن الظاهرة أوسع من ذلك بما لا يقاس. فالكاميرات مثبتة فى الشركات و المحال التجارية والبنوك والمطارات والسفارات و ساحات المحاكم وحتى المصاعد والتاكسيات، وفى الأفراح طبعا وبعض سرادقات العزاء ، وفى الشوارع أو عند بعض الإشارات الضوئية . كاميرات تضبطك وأنت تغالب النعاس، وتكشفك إن أنت أصلحت هندامك وشددت إزارك، وتحرجك إن لم تصفق فى عرس لا تعرف طرفيه إلا بالكاد أو تعرفهما لكنك لا تحب أن تصفق، وتظهر المفارقة بين بكاء جارك واكتفائك بالتأثر فى واجب عزاء.
لذلك فأنا شخصيا وإن كنت أستهجن جدا سلوك السيدة البريطانية التى ضاقت ذرعا بمواء قطة ضالة فأودعتها قبل شهور سلة القمامة فى أحد شوارع لندن ثم أحكمت من فوقها الغطاء، ومع أننى أتعاطف بشدة مع القطة التى كادت أن تختنق ولم تتركها المرأة تأكل من حشاش الأرض، إلا أننى أرثى فى الوقت نفسه لهذه الأخيرة التى تصورت أن أحدا لا يراها فإذا بالكاميرات تضبطها متلبسة و تجد نفسا مُطالبة بدفع غرامة مالية محترمة، ومنبوذة من جيرانها المحيطين.
أما أثقل أدوار الكاميرات فذلك الذى تمارسه فى بعض كبريات المساجد والكنائس تغطى به أداء الفرائض على الهواء مباشرة، فلا تبقى للمشهد صلة بالخشوع. اعتدنا فى زمن الأضواء على رؤية المصلين ينظرون فى عيوننا لا فى كتبهم المنزلة، وعلى مشاهدة نفر من حجاج بيت الله الحرام يحتشدون خلف مذيع يغطى الحدث ويلوحون للأهل بحرارة فى القاهرة أو صنعاء أو عمان،وعندما ينفض السامر يطوفون ويسعون.
نعم أوصلت الأضواء أصوات المظلومين إلى العالم وغطت احتجاجاتهم وصورت الكلاب تنهش أجسادهم فى سجون الاحتلال، لكنها فى الوقت نفسه أفسدت عفويتنا ووضعت على وجوهنا الأقنعة. ومن المفارقة أن الإنسان الذى صنع الكاميرات احتفظ لنفسه بالحق فى التحايل عليها وإلا لما وقعت تفجيرات واغتيالات فى دول عديدة. وفى مصر بالذات اكتسب المواطن العادى قدرة عالية على التعامل مع الكاميرات، فتجده مقتحما الكادر الذى تشمله الكاميرات وإن لم تكن له بالأمر صلة. وعندما يتعلق الأمر برصد المخالفات على الطريق السريع أو الدائرى فإنه ُيعدل سرعته ويميل على جاره هامسا : فى هذا الركن يوجد كمين.