فى المدينة الإسمنتية المكتظة، حيث ناطحات السحاب والإيقاع السريع وفوضى السيارات والناس، يتفاجأ الماشى ببؤر خضراء وملونة بين عمارات رمادية عالية. مساحات صغيرة مكتظة هى الأخرى إنما بالزرع والورود المختلفة، مربعات مساحاتها ضيقة محشورة بين مواقف محطة المترو وبين بيوت ومحال بيع الأدوات المنزلية، تحيط بها أسياج حديدية تسمح للماشى أن ينظر داخلها.
فى وسط إحدى البؤر، تبدو السيدة الستينية منهمكة فى تقليب التراب وغرس نبتة لا أستطيع تمييزها. ترفع رأسها فأرى عينيها الصغيرتين من تحت قبعة قش كبيرة تحميها من لهيب شمس يصعب على من لم يزر هذه المدينة فى الصيف أن يتخيله، هذا اللهيب نتصوره حكرا علينا فى بلاد العرب ولا نسقطه على المدن الشمالية. تسأل السيدة شابة تقف على بعد خطوات منها شيئا لا أسمعه فتلتفت الشقراء ذات العشرين ربيعا أو هكذا تبدو لى وتنظر إليها باهتمام. الشابة تلبس قفازا فى يدها اليمنى وتحمل جاروفا فى اليد اليسرى. تقترب من السيدة التى تدل ملامحها على أصولها الآسيوية. تتبادلان بعض الكلام ثم تعود كل واحدة منهما إلى مكانها لتعمل بجدية.
هذه الحدائق الصغيرة مخصصة من قبل إدارة كل حى لأهل الحى حتى يمارسوا فيها عادة الاعتناء بالزرع مقابل أن تجمل الحى وتمنحه رئة وبعض الأكسجين. كنت قد سمعت منذ أكثر من عشر سنوات عن هذا النوع من المبادرات فى المدن العالمية الكبيرة ذات الكثافات السكانية العالية وذات الوتيرة المرتفعة. هى رد إدارات الأحياء على حاجة الناس بأن تحاط بالجمال وبالطبيعة وسط المبانى والحجر.
***
على عكس ما تعودت عليه فى منازل دمشق التقليدية، حيث الحدائق الخاصة فى وسط البيوت بين الغرف، هذه الحدائق العامة ــ الخاصة هنا تزهر على مرأى الجميع بفضل عمل شخصى. فى دمشق، كان لجدتى أرض صغيرة بلاطها ملون بين الغرف سقفها مكشوف على السماء، كان يمكن الخروج إلى هذه الفسحة من جميع الغرف عدا من الحمام. كانت جدتى تزرع النباتات المختلفة فى أوان مختلفة الأحجام ترصها حول المكان. كانت تتفقد محتواها يوميا وتشرف على نمو الزرع وألوانه على مدى السنة. كانت جدتى مرتبطة بنباتاتها حتى أنها حين كبرت وبدأت صحتها بالتدهور، سرعان ما انطفأ رونق حديقتها وبدا لى حينها أن النباتات قد فقدت لونها مع فقدان جدتى لصحتها الجسدية والعقلية. إننى أصلا اليوم لا أتذكر كيف بدت الحديقة الصغيرة يوم رحيل جدتى، وكأن الزهور قد ذهبت مع صاحبتها.
***
أتوقف كل مرة أرى فيها حديقة صغيرة بين المبانى فأتخيل نفسى فى فترة الشيخوخة وأتساءل إن كنت وقتها سأتوجه للزهور فأجعلها عالمى. يستوقفنى أيضا مفهوم المجهود المستثمر فى مساحة تشعر السيدة التى أراقبها أنها ملكها رغم أنها ملك الحى. أفكر فى الأسماء المنحوتة على المبانى الأثرية فى سوريا أو فى مصر. «محمود يحب نوال» أو «ذكرى فريد وسامية، 8 أغسطس 1998». بعض من جمل أو حتى مقاطع من أغانٍ تم حفرها على الرخام أو على الحجر بين الرموز الهيروغليفية أو على مدخل قلعة حلب. هناك أيضا عامل الأشخاص المكان العام وكأنه ملكية خاصة بإمكانهم استحقاقه، إنما بعكس الدافع، فبدلا من تجميلها فقد استباحوها، وبدلا من إضفاء الجمال على الفضاء العام فقد عاملوه بقسوة، توقفوا لحظة عند الحائط الرومانى الذى تحفظ كتب التاريخ صوره وشوهوه.
فى هذه المدينة الحديثة فى البلد الحديث، أرى أشخاصا تدل أشكالهم على أنهم من بلاد تاريخها قديم، يتمتعون هنا بينما يحافظون على المساحة العامة. يغرسون الورود فى الربيع فتتفتح فى الصيف وتستوقف مشاة مثلى. هناك فى بلدى ذى التاريخ القديم يصعق الزوار حين يرون علامة القلب والسهم تتوسط نقوش قديمة على القوس الرومانى. لا يفهمون أن يكون أحدهم قد سحب من جيبه آلة حادة وكتب فعلا ذكرى لقائه بحبيبته هناك.
كثيرا ما أسمع ممن هم أكبر منى سنا عن جمال ونظافة بلادنا كما عاشوها هم، فى زمن بات اليوم يسمى بـ«الزمن الجميل» ويستدل عليه بصور بالأبيض والأسود تظهر الساحات العامة بشكل يبدو أكثر سكينة مما أراه اليوم، ويظهر فيها ناس يبدون فى الصور أقل بؤسا من أولائك الذين أراهم يوميا فى شوارع بلادى.
***
يطلق الفرنسيون تعبير «الحديقة السرية» على تفاصيل الحياة الخاصة لأى إنسان ويعنون بذلك أن لكل منا فضاء صغير خاص بنا نزرع فيه ما نريد وقد نداريه عن عيون الآخرين إن شئنا، فهو ملك لنا فقط وبالتالى فقرار كشف محتواه يعود لصاحبها حصريا. هنا فى الفضاء العام فى المدينة الصاخبة حيث الأصوات عالية والحريات الشخصية مفهوم بات مقدسا فى تركيبة المجتمع، يجد الفرد مساحة مكشوفة يزرع فيها ما يروق له ويبوح لورودها بأسراره خصوصا حين يغيب الأصدقاء. أ أكون طماعة لو تمنيت أن يوجود حولى الأصدقاء كما أتخيلهم فى صور الزمن الجميل، فأبوح لهم بمحتوى حديقتى السرية وأدعوهم لمشاركتى جمال حديقتى العامة؟ أ أكون طماعة لو طلبت مساحة أزرع فيها ما أشاء وأدعو إليها من أحب للتمتع بها معى لأننى لا أحب الوحدة حتى وسط الجمال؟ هكذا كانت جدتى، تزرع زهورها وتجلس مع صديقاتها وسط ألوانها فى زمن نصفه اليوم بأنه كان جميلا، بينما أنظر أنا اليوم بتمعن فى الصور الباهتة وأبتسم لسعادتهن.