حينما قالها الحكيم ذات يوم! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 8:14 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حينما قالها الحكيم ذات يوم!

نشر فى : السبت 27 يوليه 2024 - 6:30 م | آخر تحديث : السبت 27 يوليه 2024 - 6:30 م

(1)
لا أفوت ذكرى رحيل توفيق الحكيم (رحل عنا في 26 يوليو 1987) من دون أن أعاود قراءة عملٍ واحد على الأقل من أعماله الرائعة. هذه المرة أتوقف عند جانبٍ لم يلق ما يستحق من القراءة والدراسة على أهميته وقيمته! أقصد هنا إسهامه البارز في كتابة "المقال" بكل أشكاله وأنواعه.
كان الحكيم من أغزر كتاب جيله في هذه الدائرة، وكان يُطلق عليه لسنوات طويلة "كاتب الشباب الأول"، وبلغة زمننا الآن فقد كان من ضمن الكتاب "الأعلى مبيعًا" أو الأكثر رواجًا في وقته.. ولهذا كانت مقالاته تُجمع وتنشر دوريًّا بين دفتي كتبٍ كانت تصدر عن سلاسل جماهيرية معروفة ومشهورة؛ مثل سلسلة (اقرأ) التي كانت تصدر عن دار المعارف، وسلسلة كتاب الهلال، وكتاب اليوم، والكتاب الذهبي، وغيرها.

(2)
من بين هذه الكتب، كتاب عنوانه «قلت ذات يوم» وقد صدر عن سلسلة (كتاب اليوم).. وقد ضم مقالات متفرقة نشرها الحكيم خلال الفترة من 1939 وحتى 1949 وأغلبها تلك التي كان يكتبها وينشرها في جريدة (أخبار اليوم) الجماهيرية في ذلك الوقت.
وللأسف فإن هذا الكتاب ومنذ صدوره في أغسطس سنة 1970، لم يعد طبعه بحال ولم يصدر أبدًا في أي طبعة تالية، ورغم بعده عنا بما يزيد على نصف القرن، فإننا نندهش -على الحقيقة- من معاصرة وجاذبية و"راهنية" ما كتبه الحكيم في ذلك التاريخ البعيد.
ونندهش أيضًا من تلك القدرة التحليلية على معالجة القضايا الفكرية والأدبية والسياسية التي كانت تضطرم بها الحياة الثقافية في مصر في تلك الحقبة الخصبة من تاريخها المعاصر (ثلاثينيات وأربعينيات وخمسينيات القرن الماضي).
لقد فاجأني تمامًا أن أقرأ في هذا الكتاب ثلاث مقالات عن واحدة من أشهر قضايا حرية الرأي والبحث الجامعي في أربعينيات القرن الماضي، وهي التي شهرت بقضية (الفن القصصي في القرآن). أقل ما توصف به هذه المقالات -التي لم أقرأ مثلها إحاطة وتحليلًا- أنها رائعة وشاملة، وتقدم واحدة من أنضج وأرقى المعالجات لقضية حرية الفكر والتعبير، وحق الباحثين الجامعيين في البحث والنقد وإبداء الرأي حتى لو أدى بهم اجتهادهم هذا إلى مخالفة الأعراف والخروج عن المستقر والمألوف..
فلنا أن نتفق أو نختلف، لكن من المهم احترام قيمة البحث، واحترام استقلالية الجامعة، واحترام وتقدير الجهد العلمي أيًّا ما كانت النتائج التي توصل إليها..

(3)
وتنوعت المقالات -بعد ذلك- تنوعًا لافتًا ومثيرًا للاهتمام؛ وإن لم تفارق دوائر اهتمام توفيق الحكيم المشهورة؛ من سجالاتٍ في الرأي حول بعض القضايا الإنسانية والتأملات الذاتية، والكفاح الوطني والصراع العربي الإسرائيلي، وعن الأدب والمسرح والشباب والمرأة.. إلخ،
ويختتم الكتاب الذي يقع في 136 صفحة من القطع الأقل من المتوسط، بحواريةٍ مسرحية غاية في القصر لم تتجاوز الصفحات الثلاث بين شهريار وشهرزاد بعنوان "ألف ليلة وليلتان"!
على أن من أهم هذه المقالات الدسمة الغنية بالفكر وإثارة الأسئلة ورصد الظواهر وتحليلها، مقال بعنوان "الجاحظ ينظر إلينا"، وما أكثر ما أشار الحكيم إلى "الجاحظ" في كتبه ومقالاته، وقد قرأه في سن مبكرة، وأحبه كثيرًا وتأثر بطريقته العقلانية في تحليل الظواهر و"تشقيق" الأفكار، يقول الحكيم مبديًا إعجابه الوافر بالجاحظ: "والحق أن الجاحظ وقد مضى على وفاته أكثر من ألف عام هو الأستاذ المباشر لأكثر زعماء القلم في الأدب العربي المعاصر.. لأنه رفع علم التجديد وعلم الكتاب".

(4)
وفي هذا المقال المنشور بجريدة (أخبار اليوم) عام 1948 (ولاحظ التاريخ جيدًا!!) يصف العصر الذي يكتب فيه مقاله بعصر «الجهل الشامل»!! لماذا يصف الحكيم عصره -الذي يسجل التاريخ الآن أنه كان عصر ازدهار وفنون وآداب ونهضة فكرية وثقافية ملموسة- بـ عصر الجهل الشامل"؟
يجيب:
"... ما من أحد يريد أن ينقطعَ إلى علم أو يتوفر على فن.. إنما الكل يتطلع إلى الثمرة قبل الشجرة! ودبّ هذا الروح في شباب اليوم، فلم يعد لهم جلَد على درس، أو صبر على كدح.. لا ينظرون إلى الجهد الذي يجب أن يبذل، ولكنهم يبصرون المراتب التي يجب أن يرقوا إليها.
لا يريدون أن يضيعوا وقتا في الغرس البطيء والإعداد الطويل.. ولكنهم يريدون ثمرة غرس الآخرين، عجلين متلهفين! لذلك قلّ الاطلاع العميق، وندرت القراءة المجدية، وكسدت الكتب القيمة فاختلت الموازين وفسدت القيم!
ذلك هو عصر "الجهل الشامل" الذي نعيش فيه... وما أرى الجاحظ إلا راضيًا عن نفسه، قانعًا بمصيره، لو أتيح له أن ينظر إلينا اليوم من غابر زمانه"..
تُرى لو كان الحكيم بين ظهرانينا في 2024.. فماذا كان سيكتب الآن؟!