تغريدة جابو المدهشة! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 8:12 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تغريدة جابو المدهشة!

نشر فى : السبت 27 يوليه 2024 - 6:35 م | آخر تحديث : السبت 27 يوليه 2024 - 6:35 م

أريد أن أفرغ سريعًا من الحديث عن ظروف نشر رواية ماركيز «موعدنا فى شهر آب» التى ترجمها إلى العربية وضّاح محمود، والصادرة فى طبعتها المصرية عن دارى التنوير وتنمية. ليس تقليلًا من شأن تلك الظروف، التى ارتبطت بقرار ولدىّ جابو نشر الرواية بعد وفاة والدهما، رغم رفضه نشرها فى حياته، ولكن لأن جمال هذه النوفيلا البديعة أولى وأهم من ظروف نشرها، فـ«لا شىء يعلو فوق الأجمل»، كما قال الموسيقار والمطرب العظيم محمد عبد الوهاب، وكما آمنتُ دومًا بذلك. يتحدث البعض عن «خيانة أخلاقية» بنشر عمل ضد رغبة مؤلفه. هذا الأمر ليس دقيقًا تمامًا، فقد نشر «جابو» فى الصحف فى حياته فصلين من الرواية، وهناك صور لمراجعة المؤلف لبروفات خمس نسخ، عليها تعديلات لكلمات بخط يد ماركيز، أو بخط يد سكرتيرته، التى كانت تنفِّذ تعليماته، كما أنه شخصيًا ألقى الفصل الأول من الرواية على مستمعيه فى ندوة اشترك فيها مع ساراماجو. ليس هذا سلوك شخص يكره روايته، أما حكاية تدهور ذاكرته التى يعترف بها ولداه، فهى تقترن لديهما أيضًا برغبته فى الكمال، فالمؤكد أن الرواية ليست ناقصة أو مبتورة، ولكن رفض جابو للنشر مرتبط - فى ظنى - بأنها لم تحقِّق صورة الرواية المثلى فى ذهنه، وليس لسوء مستواها. ولدىّ سؤال آخر: ألا يُعتبر عدم نشر رواية بديعة "خيانة جمالية" لـ جابو عرّاب الجمال؟ هنا ظروف ملتبسة، وليست قاطعة، وهذا مريضٌ متشكك فى قدراته أكثر منه صاحب قرار، وفى هذه المساحة الرمادية يمكن قبول النشر، خاصة عندما ينحاز كريستوبال بيرا، محرّر ماركيز، إلى أهمية النوفيلا الصغيرة (نحو مائة صفحة)، ثم يراجعها ويحررها بالكلمة لعدة شهور، وهو الخبير الفاهم لأعمال جابو، والذى قام فى حياته بتحرير بعض كتبه، ومنها سيرته المعروفة «عشت لأروى». دعْ عنك إذن سيرة الظروف، وتأمل معى هذه السردية الفاتنة فى تكثيفها ودلالاتها وبساطتها العميقة، وانظر كيف يتأمل جابو حياة امرأة على الحافة هى آنا ماجدالينا، التى تبدو سعيدة مع زوجٍ أحبته، ولديهما ابن وابنة، ولكن زياراتها المتكررة لقبر والدتها فى جزيرة نائية، وفى يومٍ محدد من شهر أغسطس (آب)، تغيّر حياتها إلى الأبد. خلال خمس زيارات، وخمسة أعوام، تخوض آنا فى كل مرة مغامرة عاطفية وجنسية، فى نفس اليوم الذى تضع فيه الزهور على مقبرة أمها التى اختارت أن تُدفن فى الجزيرة، لسببٍ مجهول. آنّا ليست امرأة مستهترة، بل إنها تستشعر الذنب، خاصة عندما يمنحها أول العشاق عشرين دولارًا، ظانا منه أنها عاهرة، ولكنها امرأة استهلكت العادى والمألوف، وتقترب من سن الخمسين، وكانت أمها قد رحلت بعد قليل من هذا العمر، والآن على «آنا» أن تواجه فى كل مرة قبر أمها، وأن تواجه تجاربها الجسدية، ثم تعود إلى زوجها دومينيكو، قائد الأوركسترا، تخشى أن يشك فيها، فتشك فيه، فيعترف لها بخيانةٍ قديمة، تتفكك الصورة المتماسكة لحياتها ولحياته، ولا يبقى إلا أن تتفكك الصورة الغامضة لأمها، وعلاقتها بهذه الجزيرة بالذات. خادعة حقًّا تلك البساطة، لأن الحكاية تضرب فى أكثر من اتجاه: هى من جديد ثنائية الحياة والموت، والفناء والتجدد، والجسد والقلب، التى برع جابو فى تحليلها، وهى ثانيا علاقة الإنسان الملتبسة بالزمن، فلا هو قادر على هزيمته، ولا هو يستطيع التكيف معه، بل لعل بطل هذه الرواية المستتر والأهم هو الزمن: الموعد المحدد للزيارة، وقت المغامرة العاطفية المضغوط، حتى تلحق آنا بموعد العبّارة، زمن آنا المفقود فى حياة أسرية رتيبة، زمن الأم الغامض، والذى لا تعرف عنه آنا الكثير، وهذه المقارنة الدائمة بين أعوام طويلة، ويوم واحد ملىء بالمغامرة والإثم. من زاوية ثالثة، فإن الحكاية عن ثلاث نساء، وليست عن آنا ماجداليا وحدها، لأنها أيضًا حكاية أمها، وتدعى ميكاييلا، وحكاية ابنة آنا، التى تحمل أيضًا نفس اسم جدتها ميكاييلا، وصراع الموت والحياة، يتم اختباره فى القصص الثلاث، وعبر ثلاثة أجيال. وبينما تبدو الحفيدة ميكاييلا حائرة بين صخب البارات، وحياة الراهبات، ثم تختار حياة الرهبنة، دون أى مؤشر على أن هذا الاختيار هو النهاية، إذ يمكن ان تترك الدير فى أى وقت، فإن جدتها ميكاييلا عانت فيما يبدو من نفس الصراع، وكان اختيار القبر فى الجزيرة مصالحة رمزية بين موتها، وحياة حقيقية مختلسة عاشتها. أما آنا ماجدالينا فهى تكرر حيرة أمها، بل وتبدو كنسخة منها عندما فتحت مقبرتها، وليس كيس عظام الأم، الذى عادت به آنا، إلا مجاز الموت والحياة من جديد، وهو سؤال صعب له تجليات بعدد البشر، ولكن جابو كان دومًا منحازًا للحياة. فى هذه الرحلات إلى الجزيرة تتبدى الحيرة عنوانا على الحياة كلها، وتبدو السعادة قصيرة، ونصبح أمام حالة فرار من الزمن والوحدة إلى الجنس، وأمام لحظات هروب لمواجهة قلق وجودى عارم.. ورغم أن رجال الرواية مجرد مسكّنات للقلق، فإنهم أيضًا ينظرون بدورهم للنساء كمسكنّات لقلق مماثل، والحضور الجسدى فى الرواية، يُستخدم كمصدر للذة الجنسية، وكعظام متروكة فى عراء المقبرة، أو فى كيس صغير، أما الأرواح فهى قلقة لا تستكين. مقبرة الأم، وجزيرة الكاريبى المظللة بطيور النورس ومالك الحزين، والعبّارة الحائرة بين المدينة والجزيرة، وفنادق السيّاح والعابرين، والزهور التى تُهدى للحبيبات، مثلما توضع فوق المقابر، والخمور اللازمة لابتلاع المغامرة، والروايات الخيالية التى تقرأها آنا، والموسيقى التى تصاحبها فى كل تجربة، كل تفصيلة فى مكانها فى لوحة رسمها فنان قدير اسمه «جابو»”، يقولون إن ذاكرته ضعفت، فاختل إبداعه، وأمر بتمزيق روايته. حسنًا.. لعلها كانت لعبته الأخيرة معنا، مثلما استدرجت الأم الميتة ابنتها إلى الجزيرة لكى تساعدها، وتساعدنا نحن أيضًا، على استكشاف محاولة جديدة، لترويض الحياة.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات