لم يخب ظنى فى رواية «سقوط حر» التى كتبتها الروائية السورية عبير أسبر ونشرتها دار «هاشيت أنطوان» فى بيروت مؤخرا، فعبر 8 سنوات هى عمر الجحيم السورى كانت أسبر تتحدث لمن عرفوا دأبها عن تجربتها لكتابة رواية جديدة من المنفى حتى ظننت أنها ستكتب نصا طويلا ينتمى لفئة «الروايات البدينة» بتعبير الناقد المغربى سعيد يقطين لكنها فاجأتنى بنص قصير لا يزيد عن 110 صفحات.
وليست المفاجأة فى قصر النص أو طوله لأن الحجم ليس معيارا للحكم على جودة العمل الأدبى.
وأول ما استوقفنى فى الرواية متانة العالم الروائى الذى عملت على تشييده فالقارئ يتورط مع بطلتها «ياسمينا» من أول جملة فى النص وهى تعترف قائلة: «فى صباح يوم حار قتلت أبى».
ولعلها جملة تذكر باعتراف آخر كتبه الفرنسى ألبير كامو فى روايته الشهيرة «الغريب» وهو يقول: «اليوم ماتت أمى أو ربما ماتت بالأمس... لست أدرى».
ثمة روابط أخرى يمكن التقاطها عند المقارنة بين عالم ياسمينا وما عاشه «ميرسو» بطل كامو خاصة فى التعامل مع فعل الموت / القتل ببرودّ، لكن ياسمينا اختلفت لأنها قتلت والدها الطبيب خليل داغر بعد أن أصيب بالزهايمر وهو فى الثمانين وتركته يسقط من الدرج سقوطا حرا لترث تركته وتتخلص من التزامها تجاهه لكنها لم تنجح فى بيع بيت عمره 250 عاما يضم مقبرة عائلة كبيرة لأن وريثا آخر قاوم البيع واستولى عليه باسم الحفاظ على «تاريخ العائلة» وبات الصراع معه على «موتى» وتاريخ وليس ذهابا بالماضى إلى حاضر يسهل تجاوز صراعاته التى استوطنت البيت وجعلته للأشباح وهوما دفع أمها للمغادرة قبل موت الأب والسفر وراء عشيق أرادته هربا من شعورها بطغيان «العمارة الذكورية» فى البيت، وقبل المغادرة قالت لابنتها: «ما أجمل أن تكونى حرة»،
وعند تأويل هذه الجملة وسيرة الأم التى قاومت الابنة أية عاطفة معها يصعب تفادى المجازات المتدفقة فى النص الذى يقرأ من منظور نسوى ويقاوم البنية الذكورية سواء فى انحيازه للنوع الاجتماعى أو عبر رغبته فى تفكيك بنية السلطة كمعبر عن الفحولة السياسية التى ورطت الجميع فى تحمل أثمان الدم السورى.
والسردية التى تقدمها «ياسمينا» يمكن قراءتها كمتتالية للسقوط بالمعنى الأخلاقى أيضا، فقد تربت «لتكون خطاءة وكى تبقى كذلك» أحبت الفوضى، وأرادت بإصرار «قاتلا مأجورًا» تخريب عقول وأجساد من تقابلهم، وأحبت الرضوض التى تتركها فى قلوبهم وذاكرتهم.
وعند معالجة الثورة السورية يتجلى معنى
«السقوط»، فلا تقدم عبير أسبر عبر بطلتها مرثية لهذا الحدث الفاصل، أو تفرط فى إبرازه أو تأويله، لكنها ترى فيه فرصة لـ«استعادة الكثير من المفقودات».
وتفضل الكاتبة القادمة من عالم السينما أن تقدم بطلتها كعينة نموذجية لمن انتمى للثورة من موقع انتهازى صرف، وتصنع أرشيفا لهذا التخلى والخذلان وترصد فى الخلفية عملية
«توطين الخوف» فى الوعى الجمعى السورى وفى روح بطلتها التى باعت رفيقها فى أول اختبار ووشت به لدى أجهزة الأمن لكنها نجحت فى استعادته حين بزغ نجمه بعدها، وهى ذاتها التى وجدت فى الخراب الأخير فرصة للهرب كلاجئة من خلال واحدة من منظمات الإغاثة فقد «لملمت عمرها فى حقيبة وهاجرت إلى كندا» وسرقت فرصة يستحقها فقير.
تحسن بطلة أسبر التعبير عن نفسها كابنة لطبقة ثملت بالنفوذ والسلطة كانت تفتح أمامها كل الأبواب، وتؤرخ بنبرة شعرية خافتة لتحولات قاسية عاشتها دمشق منذ نهاية تسعينيات القرن الماضى وجعلتها مدينة «منهوبة للغزاة».
وأكثر ما يلفت النظر التباس العلاقة بين البطلة ومدينتها، فهى علاقة جدلية وربما مرضية، فقد حاولت «ياسمينا» التخلص من ذاكرتها مع المكان وواصلت الهرب فى مدن كثيرة وظلت تنفق بلا حساب لأنها «العدمية المغشوشة اليقين» أو هى «امرأة لقنوها بروتوكولات الفقد واستهزأت بالحنين» و«عاشت عمرها فى ملجأ من المهدئات».