للوهلة الأولى، قد لا يثير عنوان هذا المقال اهتمام القارئ. ومع ذلك، عند التفكير فى الأمر، يتعين على القارئ أن يولى بعض الاهتمام لفكرة إعادة تدوير البلاستيك الملامس للغذاء كصناعة جديدة فى مصر، لما يراه يوميا من أكوام من البلاستيك الممزوجة بالقمامة فى كل ركن من أركان الشوارع. وقد يتساءل بازدراء عن سبب اضطرارنا للعيش فى مثل هذا المستوى المتدنى فى حين تستطيع مصر الاستفادة من أكوام البلاستيك هذه بطريقة مجزية.
ففى ضوء الاهتمام العالمى الكبير بتحجيم وإدارة النفايات الصلبة واستضافة مصر فى نوفمبر المقبل مؤتمر قمة المناخ بشرم الشيخ، ارتأيت من المناسب طرح فكرة صناعة إعادة تدوير المواد البلاستيكية الملامسة للأغذية والتى لم تشرع مصر الدخول فيها من قبل. والأسباب لذلك كثيرة، ومن بينها نذكر المخاوف التى تحيط بالمستهلك من حيث تأثير هذه الصناعة على الصحة العامة، خاصة أنه يرى مدى الإهمال والتقصير الذى يتعامل به المواطن مع استخداماته اليومية للبلاستيك، بعيدا عما نراه فى دول أخرى يحرص فيها مواطنيها على فرز البلاستيك عن القمامة امتثالا لما تنصح به حكوماتهم وتهيئ لهم الإمكانيات والوسائل اللازمة لذلك، الأمر الذى يتطلب منا البدء بتحسين أنظمة جمع المخلفات بوجه عام. وكذلك المخاوف التى تحيط بالمصنع وتراجعه عن الخوض فى هذه الصناعة لما قد تتطلبه من استثمارات إضافية وتكنولوجيا متقدمة ونظيفة، فضلا عن تراجع الإطار التنظيمى فى مصر حتى الآن بالسماح بإقامة مثل هذه الصناعة.
ففى إحدى الاجتماعات التى حضرتها أخيرا شكت الشركات متعددة الجنسيات، مثل نستله وكوكا كولا وبيبسى، بالتزام جميعها باستيراد آلاف الأطنان من البلاستيك البكر بملايين الدولارات من الخارج للتعبئة والتغليف، سواء كان ذلك للزجاجات أو أى مواد تلامس الطعام. ويتعارض ذلك بصفة أساسية مع السياسة العامة لتلك الشركات والملزمة دوليا باستخدام 25% من البلاستيك المعاد تدويره بحلول عام 2025. وعجبت لذلك كثيرا، خاصة لعلمى أن مصر تطفو على بحر من البلاستيك المستعمل. وتساهم مصر وحدها، وفقا للتقديرات العالمية، بما يقرب من 42% من النفايات البلاستيكية بالبحر المتوسط، ومن ثم فهى تعد أكبر ملوث للبيئة فى منطقة البحر المتوسط. كما تم تصنيف مصر من بين أكثر عشر دول لديها مخلفات بلاستيكية ملوثة للبيئة وتقوم بتصدير نفايات البلاستيك إلى دول تعيد تصنيعها وتصديرها بضعف الأسعار. فهل نحن قادرون على تحويل ثرواتنا من النفايات البلاستيكية لمصلحتنا؟
• • •
إذن ما هو أساس هذه القصة ومتى ستغامر مصر فى هذه الصناعة التى تنتشر فى جميع أنحاء العالم؟ ولما لا تبذل مصر مزيد من الجهد فى إعادة التدوير وتصدير البلاستيك المعاد تدويره؟ وكم كانت المفاجأة أن مصر ليس لديها قانون يسمح بإعادة تدوير المواد البلاستيكية الملامسة للأغذية، بل وأكثر من ذلك، أن ما بها من قرارات وزارية تحول دون إنشاء مثل هذه الصناعة.
وقد تكون استضافة مصر لمؤتمر تغير المناخ COP27 فرصة للمساهمة فى تحقيق طموحات مصر لتحسين الأثر البيئى بها. ويمكن التفكير فى صناعة إعادة تدوير البلاستيك الملامس للغذاء على اعتبار أنها صناعة مربحة وتخدم مصر من مختلف الاتجاهات، سواء بالنسبة لزيادة العمالة أو المساهمة فى تحول القطاع غير الرسمى وآلاف العاملين به فى مجال التجميع والتدوير إلى القطاع الرسمى ومساهم إيجابى فى الناتج القومى، وتوفير العملة الصعبة عن طريق خفض استيراد البلاستيك البكر واستعاضته بتدوير المواد البلاستيكية النظيفة والآمنة الصالحة لملامسة الأغذية. أضف إلى ذلك، جذب المزيد من الاستثمارات المنتجة والتكنولوجيا النظيفة والمتقدمة فى ظل الاهتمام العالمى المتزايد بصناعة إعادة تدوير البلاستيك وأن تصبح مصر مركزا إقليميا ودوليا لتصدير المواد البلاستيكية الملامسة للغذاء المعاد تدويرها.
علاوة على ذلك، فإن وجود العديد من الشركات متعددة الجنسيات فى السوق المحلية التى لها مصلحة فى الاستفادة من مصر كمركز إقليمى لإنتاج وتصدير المواد البلاستيكية الملامسة للغذاء المعاد تدويرها، يضيف من احتمالات نجاح مصر فى هذه الصناعة الجديدة ويتيح فرصة لبدء هذه الصناعة كصناعة مغذية للشركات متعددة الجنسيات العاملة فى مصر، وكذلك لأفرعها فى الخارج، لا سيما الدول الإفريقية التى لم تدخل فيها هذه الصناعة بعد. هذا، وتمتلك مصر كميات كبيرة من مخلفات البلاستيك تؤهلها لتصبح أحد أكبر منتجى ومصدرى البلاستيك المعاد تدويره الآمن على الطعام.
• • •
ومع ذلك، فقد رأينا أن الإطار التنظيمى فى مصر حتى الآن لم يكن يسمح بإعادة تدوير البلاستيك الآمن والملامس للغذاء والاستخدام الواسع النطاق له. فبينما تنخفض معدلات إعادة تدوير البلاستيك بصفة عامة فى مصر، إذ تشكل أقل من 10% من إجمالى نفايات البلاستيك، فإن معدلات إعادة التدوير تبلغ 35% و52% فى كل من الولايات المتحدة وأوروبا على التوالى. ولا شك أن وجود الكثير من الشركات متعددة الجنسيات واستعدادها فى الاستثمار فى هذه الصناعة وفى أفضل تقنيات إعادة التدوير، من شأنه تعزيز إمكانات مصر غير المستغلة وجعلها مركزا إقليميا لإنتاج وتصدير البلاستيك المعاد تدويره الآمن على الطعام.
وكانت الهيئة القومية لسلامة الغذاء تسمح حتى الآن بتبنى اللوائح الخاصة بالاتحاد الأوروبى بشأن البلاستيك المعاد تدويره الآمن على الطعام على أساس كل حالة على حدة. واقتصر الإنتاج على التصدير فقط من قِبَل شركة واحدة هى شركة بريق ولم يكن مسموحا باستخدام البلاستيك المدار الملامس للغذاء على المستوى المحلى. ومما لا شك فيه إن إصدار هيئة سلامة الغذاء أخيرا مشروع قانون بشأن القواعد الفنية الملزمة للمواد الملامسة للغذاء يمثل خطوة بناءة على الطريق الصحيح والسماح بإقامة هذه الصناعة على نطاق واسع فى مصر، وكذلك تشجيع القطاع الخاص والاستثمار الأجنبى المباشر على الخوض فى هذه الصناعة الجديدة.
كما أن الاتجاه إلى طرح مبادرة شاملة تهدف إلى تعزيز تصدير البلاستيك المعاد تدويره الآمن على الطعام يدخل ضمن سياسات الدولة سواء بالنسبة للاهتمام بالتصدير وخفض الواردات أو الارتقاء بالبيئة وعلى رأسها مبادرة «جو جرين» لعام 2020 تحت رعاية السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى. ومما لا شك فيه أن الأمر يحتاج إلى تضافر الجهود بين هيئة سلامة الغذاء والهيئات الحكومية المعنية مثل الهيئة العامة للتنمية الصناعية ومصلحة الجمارك واتحاد الصناعات لبناء أساس سليم لهذه الصناعة وتحديد معايير لإعادة تدوير البلاستيك الآمن. كما يتطلب تسهيل الإجراءات الخاصة بإنشاء شركات جديدة لإعادة التدوير وإصدار التراخيص اللازمة لها ومساعدتها على التحول من القطاع غير الرسمى إلى القطاع الرسمى مع إيلاء الاهتمام للعائد الإيجابى لمثل هذا التحول. وعلى الشركات متعددة الجنسيات والمهتمة بهذا المجال دعم الشركات الوطنية ومساعدتها للنهوض بهذه الصناعة، حيث لا تقوى هذه الشركات، لا سيما الصغيرة ومتوسطة الحجم الدخول فى هذه الصناعة منفردة.
فهل هناك آذان صاغية لِما نهات به، وهل نطمع فى أن يكون مثل هذا المشروع الحيوى بالنسبة لمصر وفى ضوء إسراع هيئة سلامة الغذاء فى استصدار قانونها الذى يسمح بقيام وترعرع هذه الصناعة فى مصر أن يدخل ضمن مشروعات المناخ الجاذبة للاستثمارات الأجنبية فى قمة المناخ فى شرم الشيخ؟