قيل إن المدير العام لاتفاقية الحبوب الدولية والدول الأعضاء تواصلوا مع مصر لإعادة النظر فى قرار الانسحاب من الاتفاقية. وقيل إن مصر تعيد دراسة قرارها. غير أن شيئا لم يحدث بالنسبة للانسحاب فى يونيو من هذه الاتفاقية. ولذا ارتأيت أن أكتب هذه السطور لأشارككم بعض الأفكار كمفاوض لأكثر من ٤٠ عاما خلف كواليس الأمم المتحدة والمنظمات والاتفاقيات الدولية. فإننى على قناعة تامة بأن المسئولين لديهم الصورة شاملة وأكثر وضوحا. كما لا أهدف إلى تحليل اتفاقية الحبوب الدولية وما إذا كانت قد حققت نجاحًا أو فشلًا على مدار الثلاثين عامًا الماضية من وجودها، بل أسعى إلى فهم الأسباب التى دفعت مصر لاتخاذ هذا القرار، وما إذا كان انسحاب مصر من الاتفاقية هو الخطوة الصحيحة وتداعيات هذه الخطوة وتأثيرها على وضع ومكانة مصر إقليميا ودوليا.
• • •
فإن أحدا لا يشكك فى أن قرار مصر بالانسحاب من اتفاقية الحبوب الدولية جاء بعد تقييم المسئولين لإيجابيات وسلبيات هذا القرار المفاجئ وغير المعتاد. وكانت الحجة الرئيسية التى ساقها المسئولون لتبرير قرارهم هى أن الاتفاقية لم تكن ذات فائدة لمصر. فمن أهم انتقادات مصر للاتفاقية ومن بين أسباب الانسحاب هو عدم قدرة الاتفاقية على تثبيت أسعار القمح والحبوب العالمية والسيطرة على سوق الحبوب. وللعلم، لا توجد اتفاقية دولية أو إقليمية لها تاريخ فى التلاعب وإدارة الأسعار فى السوق الدولية، باستثناء منظمة الدول المصدرة للنفط (الأوبك). فلقد نجحت منظمة الأوبك بالفعل فى التأثير على أسعار النفط العالمية لما تمثله حصريا من مصالح متقاربة ومشتركة لمنتجى النفط. ونجحت منظمة الأوبك لأنها استطاعت السيطرة كلية على جانب العرض فى المعادلة، على عكس اتفاقية الحبوب الدولية التى تتكون من 34 دولة (بما فى ذلك الاتحاد الأوروبى كعضو) تمثل مجموعة متنوعة من المنتجين والمستهلكين. وبالتالى، يمثل أعضاؤها كلا الجانبين من معادلة العرض والطلب مع تنوع مصالحهم واحتياجاتهم على نطاق واسع والتناحر الدائم والمستمر فيما بينهم. فعلى عكس الأوبك، لم يكن الغرض من الاتفاقية هو استقرار الإمدادات أو الأسعار منذ إنشائها فى عام 1995.
ومع ذلك، فإن الدول التى وقعت وصدقت على اتفاقية الحبوب الدولية كانت جميعها لديها نوايا حسنة ومُثُل عليا حول قدرات مثل هذه الاتفاقية فى تحقيق قدر من التوافق من خلال المفاوضات بين أعضاء تتباين مصالحهم واهتماماتهم. وتعثرت الاتفاقية عندما خاض أكبر منتجى القمح فى العالم، روسيا وأوكرانيا، حربهما العام الماضى، والتى كانت آثارها أكثر تدميرًا لمصر من أى دولة أخرى، حيث تستورد مصر 50٪ و30٪ من وارداتها من القمح من روسيا وأوكرانيا على التوالى. وأولئك الذين اعتقدوا أن هذا الاتفاق يمكن أن ينقذهم كانوا مخطئين. فمن المفترض أن تزدهر الاتفاقيات الدولية عندما تسير الأمور على ما يرام وتكون أول من يخفق فى مواجهة المواقف الصعبة.
وتجدر الإشارة فى هذا السياق إلى أنه إذا كانت مصر وغيرها من كبار مستوردى القمح والحبوب تهدف إلى تحقيق الاستقرار فى أسعار القمح والتخفيف من حدة أزمة الأمن الغذائى، فإن ذلك لا يتم بالتأكيد من خلال الانسحاب ولكن من خلال المفاوضات. ومصر من الدول الرائدة التى تؤمن بالتعاون الدولى وبناء التوافق، ولا تدخر جهدا فى القيام بدور مؤثر فى دوائرها الطبيعية سواء أكانت الأفريقية أم العربية أم النامية. ولم تكن مصر فى يوم من الأيام من بين الدول التى تنسحب فى وجه الصعوبات سواء على الصعيد الدولى أو الإقليمى. لذا، يجب أن يكون هناك سبب جوهرى آخر دفع مصر إلى اتخاذ مثل هذا القرار من جانب واحد. نعم، تمر مصر بفترة صعبة من الناحية المالية وهى فى حاجة ماسة إلى العملة الصعبة والأمر متروك لصناع القرار لاتخاذ الإجراءات التقشفية المناسبة فى ظل الظروف التى تمر بها مصر. وربما اعتقدوا أن توفير بضعة ملايين من الدولارات من رسوم العضوية كان يستحق انسحاب مصر من هذه الاتفاقية الهامة بالنسبة لها.
ولعل الانسحاب ــ وكلنا أمل ــ أن يساعد مصر على اتخاذ قرارات جذرية لزيادة إنتاجها والشراء بحرية أكبر فى السوق العالمية لتلبية احتياجاتها من القمح وغيره من الحبوب. بيد أن الانسحاب من الاتفاقية أنقص من قدرة مصر فى الأزمة الحالية على التنسيق والعمل فى إطار مفاوضات متعددة الأطراف، وهو أمر أكثر فاعلية من قرار دولة بمفردها. كما لن تتمكن مصر من الوصول إلى المعلومات المهمة المتاحة للدول الأعضاء فى اتفاقية الحبوب الدولية، والتى تستمد أهميتها وفائدتها من كونها منتدى دولى يتبادل فيه الأعضاء المعلومات والتحليلات ويعقدون المشاورات حول سوق الحبوب وتطورات السياسات.
• • •
قد نتساءل ما إذا كان هذا بالون اختبار يتبعه المزيد من قرارات الانسحاب؟ وما إذا كان هذا هو الانسحاب الأول فى سلسلة انسحابات متوقعة مستقبلا من الاتفاقات الدولية والإقليمية لتوفر تكلفة دفع الاشتراكات من العملة الصعبة فى الأمم المتحدة والاتفاقيات الإقليمية؟ هل تعيد مصر النظر فى سياساتها كجزء لا يتجزأ من المجتمع الدولي؟ هل سيؤثر ذلك فى سياسة مصر الخارجية على الساحة الدولية؟ هل هذا قرار محسوب؟ هل هذا يعنى أن مصر فى حاجة ماسة للادخار فى التزاماتها الدولية للعملة الأجنبية؟ وعندما اتخذنا قرارنا بالانسحاب، لم يجب أحد على أو ينظر بعمق كاف إلى هذه الأسئلة وغيرها.
وإذا كان قرار مصر بالانسحاب هو من أجل توفير ملايين الدولارات من المساهمات، فمن المحتمل أن يكون هذا قرارًا غير صائب، حيث من شأنه أن يلقى بظلاله على سياسة مصر الخارجية ومكانتها العالمية والإقليمية كدولة نامية رائدة. وإنى أتذكر فى الثمانينيات، عندما كنت أعمل مستشارًا فى البعثة المصرية لدى الأمم المتحدة فى نيويورك، وكان الدين الخارجى لمصر معوقًا، فقد أغرتنا حينذاك فكرة التقدم للانضمام إلى مجموعة الدول الأقل نموًا. (LDCs) وهى مجموعة من الدول، تأسست فى أواخر الستينيات ولديها أدنى مؤشرات التنمية الاجتماعية والاقتصادية وكانت تحصل على مساعدات سخية من الدول المانحة ومعاملة تفضيلية. غير أنه سرعان ما قررنا الابتعاد عن هذا الفكر لأنه يضر بسمعة مصر ومكانتها كدولة نامية رائدة فى المجتمع الدولى. وتؤكد مكانة مصر الدولية أنه لا ينبغى أن تثقل كاهلها بقرارات متسرعة وقصيرة المدى.
وكلمة تحذير أخيرة ــ للدول الكبيرة والصغيرة على حد سواء ــ يأتى تصدع الاتفاقات المتعددة الأطراف على حساب ما حاربنا من أجل بنائه لإنقاذ مجتمعنا الدولى من ويلات الحروب العالمية. فآثرنا إبرام الاتفاقات لتعزيز تبادل الآراء توصلا إلى تسويات يرتضى بها الجميع وإيجاد توافق بين الدول بعيدًا عن الأحادية والانطوائية. ويعتبر الانسحاب بحجة أن «الاتفاق لا يجلب أى قيمة مضافة» حجة ناقصة. فإن «القيمة المضافة» ليست خدمة فورية ذات عائد ملموس، إنما تكمن فى العمل المشترك والإجماع الدولى. وقد نتساءل ــ ونحن فى ذلك على حق ــ ما هى «القيمة المضافة» التى تستمدها مصر من كل اتفاقياتها الدولية والإقليمية التى لا تعد ولا تحصى. وإذا انسحبت مصر، فكيف يمكنها كواحدة من أكبر مستوردى القمح والحبوب، التأثير على المفاوضات فى الأسواق الدولية وكبح جماح الأسعار؟
إن التوجه نحو تقويض بنية نظامنا الدولى فى جميع المجالات، سواء فى مجال التجارة أو نزع السلاح أو السياسة، يحتم علينا، وقبل الشروع فى هدم هذا الهيكل، التفكير بشكل جماعى فى البدائل المتاحة لنا. سيكون من الحكمة للمجتمع الدولى ككل أن يكون لديه بديل قبل أن يشل نظامنا الدولى القائم.
مساعدة وزير الخارجية للعلاقات الاقتصادية الدولية (سابقا)