لا يتعب المثقفون العرب من الرجوع المتكرر لثنائيات الأفكار ومسالك الفعل الضرورى مع ما يرافقه من ذرف دموعهم بسبب عدم قدرتهم على حسم موضوع تلك الثنائيات.
وفى الأغلب يرجعون أسباب عدم الحسم إلى عجز الأمة الفكرى والثقافى والسلوكى التاريخى وإلى بلادة الفرد العربى فى التعامل مع الفكر والواقع مع كثير من التحامل الجارح.
لقد مر أكثر من قرنين والمثقفون والإصلاحيون يدورون فى هذه الحلقة المفرغة.. ولا أعرف أمة أنهكت كل قواها العقلية والتحاورية فى الصراعات حول الثنائيات مثل ما فُعل بأمتنا ومثلما فعلت بنفسها. منذ طفولتنا ونحن نسمع الصراخ والعويل حول ثنائية الإيمان والعقل، السلفية والحداثة، الدين والعلمانية، الفرد والجماعة، القطر العربى والوطن العربى، العروبة القومية والإسلام، الرجل والمرأة، الابن والابنة، العلوم والآداب.. إلخ.. من الثنائيات المتواجهة المتصارعة التى يراد، بإصرار طفولى عجيب، لأحدها أن يزحزح الآخر ويعلو عليه وفى النهاية يعلن انتصاره كمبدأ أو شعار أو فكر أو استراتيجية أو أيديولوجية تتبناها غالبية الناس.
لا يعرف الإنسان سبب عدم قبول تعايش وتحاور وتنافس تلك الثنائيات دون أن يعلن الحكم بانتصار هذه أو تلك. بل يسأل الإنسان نفسه: هل حقا أن واحدة من المجتمعات الأخرى قد حسمت تلك الثنائيات، بالمعنى الذى نريده فى بلاد العرب، أم أن جميع المجتمعات البشرية، دون استثناء، تعيش فيها كل أنواع الثنائيات جنبا إلى جنب، وأن الذى حسم هو وجود نظامى تحاور وتنافس متسامحين فيما بين كل ضدين وترك الأمر للزمن ولتبدل الأحوال لكى يقررا فى النهاية حياة هذا أو موت ذاك.
دعنا نأخذ مثال ثنائية الدولة القطرية ودولة الوحدة القومية. لقد طرح الموضوع منذ خروج العرب أولا من تحت عباءة الحكم العثمانى، ثم طرح بعد أن أمعن الاستعمار الغربى فى تمزيق الوطن العربى إلى دول وطنية متباعدة عن بعضها البعض.
كان طبيعيا أن يكون رد فعل البعض هو طرح شعار وحدة الأمة فى دولة اندماجية واحدة، خصوصا بعد أن زرع الكيان الصهيونى فى فلسطين وبدأ يشكل خطرا وجوديا على كل العرب. لكن القوى السياسية الثلاث التى طرحت شعار الوحدة العربية، وهى حزب البعث العربى، والحركة الجماهيرية الهائلة التى قادها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ونظام الحكم فى مصر، وحركة القوميين العرب، لم يوفقوا فى إيصال مشاريعهم إلى بر الأمان، لأسباب خارجية وداخلية كثيرة فصلت فى مئات الكتب والمؤتمرات.
لكن ما إن تعثر ذلك المشروع العربى الكبير حتى أطل علينا البعض، بالعقلية الثنائية إياها، لا بالمناداة لإصلاح ما تعثر فى الماضى وإنما بإعلان انتصار الدولة القطرية التى أصبحت قدرا لا راد له عند هؤلاء.
الواقع أن الموضوع برمته يطرح بشكل خاطئ، إذ ما المشكلة فى التعامل مع وجود الدولة الوطنية القطرية، والعمل على أن تقوم بواجباتها التنموية، والانتقال بها إلى مرحلة ديموقراطية متقدمة وحقيقية، وفى نفس الوقت، ودون تضاد أو صراع أو الدخول فى معركة الثنائيات، العمل على أن تتوجه الدولة الوطنية نحو تحقيق وحدة عربية متدرجة تضامنية وتعاونية فى البداية إلى أن تنضج شروط قيام وحدة أكثر اقترابا من الاندماج والانصهار المتفق عليه بتراضٍ ديموقراطى شعبى فى المستقبل؟
ما الذى تجنيه الحملة التى تعتبر أن الإيمان بوحدة الأمة العربية يوتوبيا خيالية وصلت إلى مرحلة الموت، وأنها أيديولوجية من مخلفات القرن الماضى العربى المتعثر، وبالتالى آن أوان إغلاق ملفها، وأننا لم نعد بحاجة إلى تجذيرها ونشرها فيما بين صفوف الشابات والشباب العرب؟
ثم عن أية دولة وطنية قطرية عربية يتحدثون؟ أليست هى الدولة العربية الحديثة التى مر على وجودها قرابة القرن ومع ذلك فشلت فشلا ذريعا فى بناء تنمية إنسانية مستدامة، وفى الانتقال إلى الديموقراطية والتخلص من الاستبداد، وفى تقديم مشروع تجديد ثقافى وحضارى، وفى استقلال وطنى حقيقى بعد أن أصبحت مستباحة من قبل كل من هب ودب من دول الاستعمار، وفشلت فى الدخول فى عصر العلم والتكنولوجيا، وفى ألف ساحة وساحة أخرى؟ هل حقا أن الحل العربى يكمن فى العيش مع الدولة القطرية الفاشلة مهما كانت نواقصها؟
ثم ألا يرى هؤلاء أن قوة ومكانة بلدان مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا وألمانيا والهند، بل وقوة ومكانة تكتل مثل الاتحاد الأوروبى، أحد أسبابها الرئيسية هى اتحاد مكوناتها وأممها فى وحدة سياسية لدولة واحدة؟ أو فى تكتل تضامنى تعاونى قائم على أسس متينة؟
ما نحتاج إلى أن نعلمه لشباب الأمة هو أنهم فى الوقت الذى يتعايشون حاليا مع الدولة القطرية ويسعون إلى تحسين أوضاعها الكلية، عليهم، وفى نفس الوقت، أن يطالبوا هذه الدولة الوطنية بالسير فى طريق خطوات وحدوية تنتهى بقيام وحدة الأمة العربية فى كيان وحدوى قوى يساعد هذه الأمة على أن تكون فى مصاف الأمم القوية سياسيا واقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا ومعرفيا، أى إنسانيا بكل معنى الكلمة، وأن تخرج من جحيم مشاكلها الحالية.
موضوع الدولة القطرية والدولة الوحدوية يجب أن يخرج من عبث الثنائيات المتصارعة ويدخل فى حوار التناغم والفعل والتقوية لكلا المكونين حاليا، مع الأمل أن لا يطلب أحد التضحية بأحلام هذه الأمة فى وحدتها الوجودية الشاملة التامة فى المستقبل.