على مدار الأسابيعِ الماضيةِ توالَت تحذيراتٌ رسميةٌ من طقسٍ مُتقلِّب يأتي في الطريق، ومِن أجواءٍ مٌنذرةٍ بعواقبٍ وخيمة. أُذيعَت أخبارٌ عن احتياطاتٍ يجري اتخاذُها، وقواتٍ مُتأهبة، وعرباتِ شفطٍ وكَسحٍ واستعدادات صاخِبة؛ هي أشبه باستعداداتِ الحَرب.
***
قيل إن الأمطارَ الغزيرةُ سوف تنهال من السماء، وإن العواقبَ غير مأمونةٍ والنواتجَ في عِلم الغيب. انتظر الناسٌ حلولَ الكارثة، لكن أيامًا مضت ولم يحدث في العاصمةِ المُتحفزةِ شيء.
تكرَّرت الإنذاراتُ والمُناشداتُ التي تُهيب بالمواطنين الاحتراسَ، لكن هؤلاءَ الذين احترسوا مِن قبل مرات، واتخذوا الاحتياطات؛ لم يعودوا قادرين على التَّصديق.
***
في صباحٍ بدا عاديًا مثله مثل صباحات أخرى، اختفت الشمسُ الساطعةُ إذ فجأة، وظهرت غيومٌ ثقيلة. هطلت المياهُ لدقائقٍ معدودات، مَصحوبةً بلمعة برقٍ عابرةٍ سُرعان ما اختفت، ثم تناقصت الأمطارُ وتراجَعت حتى انتهَت تمامًا، وأشرقت الشمسُ من جديد.
لم يكُن الأمرُ قاسيًا ولا مفزعًا؛ قطراتٌ مُتوسطة الحَجم والكمّ؛ تُعلن عن مَقدمِ الشتاءِ بلُطف وكياسة إذا ما قُورنَت بأمطارٍ حقيقيةٍ؛ تنهمر في بلدانٍ أخرى لساعاتٍ وأيامٍ، وبعض أحيانٍ لأسابيع، لا تتوقَّف لحظة ولا تمنح مستقبليها هُدنة.
***
لم يكُن الطقسُ عصيبًا ولا مُلبدًا بالزوابعِ حتى الثُمالة؛ لكن الشوارعَ امتلأت على الفورِ بالمياه، وظهرَت بحيراتٌ عميقةٌ عند مطالعِ الجُّسور ومَنازلِها، وتقلَّصت حاراتُ السير في أغلب المناطق إلى حارةٍ وسطى؛ فيما الجوانب تغمرها الأمواجُ التي تَعبُر الأرصفةَ لتُغرِق السائرين على أقدامهم، ومَن أتعسهم الحظُّ بتعطُّل سياراتهم.
***
على طريقِ الأوتوستراد انحشرَ الراكبون وتوقَّفت حركةُ المرور. استغرَقْتُ ساعتين تقريبًا كي أقطع مسافةٍ لا تتجاوز عشرةَ كيلومترات، لم تلُح خلالها بالوعةُ صَرفٍ واحدة تعمل بكفاءة. تناثرت على الأسفلت قطعٌ صغيرةٌ من أحجار لم يفهم أحدٌ من أين أتت ولا كيف، لكنها قد تكون أجزاءً من جسمِ الطريق، حركتها المياهُ ولفظها الجَوف. ثلاث ساعات إضافية في العودة إلى البيت مقابل نصف الساعة في الأوقات العادية؛ مُناوراتٌ فذَّة للابتعاد عن مناطقِ التكدُّس، ومُناوشاتٌ لتجنُّب الحفر والأخاديد، ثم محاولاتٌ فاشلةٌ لقتلِ الغضبِ والملل.
***
ظهرت جليةً عيوبُ التخطيط، وانكشف المَستورُ منها بعدما ظلَّ مُتواريًا طيلة الأشهر السابقة، فقد أسهم خطابُ العدوى والمَرض في خفض الكثافةِ المُرورية؛ إذ تضاءلت أعدادُ طُلَّابِ المدارسِ والجامعاتِ وكذلك الموظفين، أما وقد حضر الشتاء؛ فقليله فاضح، وكثيره مآسٍ وزلَّات لا تغتفر.
***
عشَّاقُ الشتاءِ كثيرون وأنا منهم، لكن غُمَّةَ المكوث على الطريق لساعاتٍ خمس دون حركة؛ تُحيل بهاءَ الأمطارِ إلى جَحيم، وعطرَ الأرضِ المُبللة إلى رائحةٍ عَطِنة، كما تجعلُ الخروجَ للاستمتاع بفوراتِ الطبيعةِ مُغامرةً مأفونة.
الأزمةُ عندنا مُزدوجةٌ؛ فالتنبؤات مِن ناحية قد تكون غير دقيقة، والاعتماد على الحاسَّة والحَدس قد يُصيب أو يَخيب، ومِن ناحية أخرى؛ لا يكون الاستعدادُ لشتاء مَعلوم، بتوفير الشافطات والكاسحات بادئ ذي بدء، ولا بتخفيض ضَخّ المياه النقيةِ إلى البيوت، إنما باختراع قديم يُدعَى "نظامُ صَرف" فاعلٍ مَدروس، يستقبلُ الفائضَ من المياه ويمنع غرقَ المواطنين.
***
رسمت تصريحاتُ المسئولِ على الوجوه ابتساماتٍ وضحكاتٍ ساخرة، فمُطالبة الناسِ بالتزام المنازلِ، وتلافي الخروجَ إلا في حالِ الضرورةِ القُصوى؛ لا يبدو في الحقيقةِ هادفًا إلى حمايتهم، ولا هو نابع مِن خطورةِ الأوضاعِ واحتمالات تفاقُمِها، بل غرضه البادي مواراةِ السوءاتِ وتهدئةِ الانتقاداتِ، وتعليق الفشلِ في مُعالجة المُشكلةِ المُتكررة على أجواءٍ عاديةٍ؛ لا ذنب لها في خيبةٍ نعيشها.
***
حكايةٌ قديمةٌ درسناها وسمعناها مِن الكبار، عن راعٍ أهوج أحبَّ المِزاح الثقيل، يصرخ صائحًا أن الذئبَ قد أتى ليأكلَ الأغنام، وإذ يهرع الناسُ لنجدته يُقهقه ملئ شدقيه؛ فلا ذئبٌ ولا خَطر. اعتاد الناسُ خداعَه فلم يتحركوا حين تعالت ذات يوم الصرخاتُ؛ لكن هذه المرة دونًا عن المراتِ السالفة، كان الذئبُ هناك يفترسُ الشياه.