لو احترمنا حق الملكية الفكرية لوجب علينا تسمية المقال "عن العشاق سألوها " وليس "عن العشاق سألوني"، أما ضمير الغائب (هي ) فيعود على الدكتورة آمال موسى التي كتبت مقالا قيّما في جريدة الشرق الأوسط يوم ١٦ ديسمبر الجاري بعنوان "هل تحيا اللغة من دون عشاق ؟ ". جوهر المقال أن العرب آخذون في التنكر للغة الضاد ، وهذه الظاهرة المحزنة مرصودة من وقت ليس بالقصير وقد دلل عليها المقال بالمزيد من الأدلة والمؤشرات، لكن المهم في المقال أنه تعامل مع طرفّي العلاقة أي العرب ولسانهم باعتبارها علاقة بين عاشقَين، وفي هذا المقام وصفت الكاتبة هجر العرب لغتهم أوصافا عاطفية من نوع " تقليل التواصل والتقشف فيه" ، أو من نوع "الذبول وخفوت الشغف" ، وبناء على ذلك طرحت السؤال التالي "هل تحيا اللغة من دون عشاق ؟ "
***
هذا المقال من نوع المقالات التي تدفع القارئ بعد أن ينتهي من قراءتها إلى التأمل، وذلك أن المقال قارن بين أمرين، الأول هو توقف العرب عن عشق لغتهم الأم وتناقص إقبالهم على دراسة قواعدها وتذوق إنتاجها شعرا ونثرا، والثاني هو التحسن المضطرد في موقع هذه اللغة على خريطة اللغات الرسمية العالمية التي تضم ست لغات تحتل منها العربية الموقع الرابع . الانطباع المبدئي الذي تتركه في الذهن هذه المقارنة هو أنه رغم انصراف العرب عن لغتهم وهجرهم لها إلا أن هناك تزايدا في أعداد الناطقين بها على مستوى العالم، وبالتالي يكون السؤال الذي يثور هو التالي: مم تخاف الكاتبة إذن ولماذا تشكك في قدرة اللغة العربية على أن تحيا وتستمر؟ مفتاح الإجابة على هذا السؤال في تصوري تكمن في لفظ العشق الذي استخدمته الكاتبة في عنوان مقالها وتناثر بعد ذلك بين السطور، وكأنها تريد أن تقول نعم إن اللغة العربية تنتشر لكن عشقها والولع بها يتناقص، هي تنتشر لأن المنطقة العربية منطقة فتية ولود متجددة وبالتالي ستظل اللغة العربية لغة متداولة بين الناس، وهي تنتشر أيضا لأنها لغة القرآن الكريم والمدخل الصحيح لفهم نصوصه والتمعن في معانيه وبالتالي سيظل الأندونيسيون والمالاويون والباكستانيون ..إلخ يقرأون كتاب الله باللغة العربية لكنهم لن يتحدثوا باللغة العربية لأن اللغة عنوان الهوية وهم لا يفرطون في هوياتهم. هذا عن انتشار اللغة العربية ومصادره وأسبابه، أما عن تناقص عشق اللغة العربية وانحسار التعلق بها ومظاهر ذلك فحدّث ولا حرج، أبناء لغة الضاد يستحون منها.. يزوغون ويهربون، يهجرونها إلى غيرها فإن ألجأتهم الظروف إلى استخدامها لحنوا في نطقها وعصفوا بقواعدها وتجاسروا على حروفها فحولوا ألفها إلى رقم 2 وحاءها إلى رقم 7 وعينها إلى رقم 3 ، وأصبحت قراءة الجملة الواحدة على هذا النحو لا صلة لها بالعربية من قريب أو بعيد .
***
كل أمة تسعى لتعزيز موقعها بين الأمم تبدأ بتأكيد ذاتها والاعتزاز بهويتها فإن هي أرادت مد نفوذها خارج حدودها تكون اللغة واحدة من أدواتها. هنا نحن لا نتحدث عن دول كبرى كفرنسا التي تعد النموذج التقليدي للاستعمار الثقافي، لكن نتحدث حتى عن دول إقليمية كبيرة كتركيا مثلا فعندما تفكك الاتحاد السوڤيتي كانت اللغة هي بساط الريح الذي حمل تركيا إلى جمهوريات وسط آسيا الإسلامية، وحيثما مكّنت تركيا لنفسها في شمال سوريا فإنها نشرت لغتها وأوفدت معلميها وأنشأت مدارس سوف تتخرج منها عما قريب أجيال بطاقاتها سورية ولسانها وهواها تركيان. وكل جماعة تناضل لانتزاع حقها في المواطنة المتساوية تبحث للغتها عن مساحة يُعتد بها على الخريطة اللغوية لدولتها، هكذا تحولت اللغة الأمازيغية في دولة مثل الجزائر من كونها لغة محلية إلى كونها لغة وطنية ورسمية إلى جانب اللغة العربية التي احتفظ لها التعديل الدستوري في ٢٠١٦ بوضعها المتميز أي باعتبارها اللغة الرسمية للدولة بألف ولام التعريف، ومن وراء هذا التطور في موقع اللغة الأمازيغية تاريخ طويل من المطالبة والتشبث.. تاريخ طويل من العشق .
***
ليس صحيحا أن عشق اللغة الأم يتنافي مع إتقان اللغات الأخرى فهذا غير ذاك، والترويج لهذا الخلط هو ترسيخ للنظرة الأحادية التي تعبنا منها في التعامل مع كل الظواهر ومنها ظاهرة اللغة. إن الحديث عن فطاحل اللغة العربية ومنهم عميدها نفسه ممن كانوا يجيدون اللغات الأجنبية حديث مكرر ومعروف. ومن يستمع إلى العديد من مثقفينا في المغرب العربي يطرب لجزالة اللغة وفصاحة اللسان وسلامة النطق، فلا الحديث يُنطق هكذا "حديس" ولا الفتحة تعلو المبتدأ ولا الباء تفارق المتروك، وعلاقة مغربنا العربي بالثقافة الفرنسية وطيدة لكن عشق اللغة العربية ككل عشق مصدره قرار والتفنن في إظهار هذا العشق هو أيضا قرار. من جهة أخرى صحيح أن الطلب في سوق العمل يكون على اللغات الأجنبية وليس على اللغة العربية لأن الأولى هي التي تنتج العلم والمعرفة والتكنولوچيا ، لكن من قال إن على الواحد منا أن يخلع هويته على باب الوظيفة ؟!
***
يا آمال أوجع مقالك قلوب عشاق اللغة العربية في مناسبة الاحتفال بها.. أوجعها كثيرا لأنه لمس الجوهر وأثار السؤال الأهم عن عروبة الجنسية وغربة اللسان، فمتى تعود الألسنة المهاجرة إلى مواطنها ومتى يعود لحرف الضاد ألقه؟