باتت المعادن الحرجة محور صناعات تكنولوجيا المستقبل والمحرك الرئيسى لتكنولوجيا أشباه المواصلات والمعدات العسكرية والطاقة المتجددة. وعليه، أضحى لتلك المعادن أهمية بالغة، وبات استدعاؤها على ساحة التنافس الدولى أمرًا لا مفرَّ منه. وعلى ذلك، دخلت المعادن الحرجة مرحلة جديدة من الأهمية، وأصبحت محط اهتمام العديد من دول العالم، لا سيما المتقدمة.
تتوزع احتياطيات المعادن فى قارة إفريقيا عبر عدة دول؛ حيث تمتلك كل دولة موارد طبيعية متنوعة. على سبيل المثال، توجد احتياطيات كبيرة من النحاس والكوبالت فى جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا وجنوب إفريقيا وزيمبابوى، بينما تتوفر احتياطيات من الماس فى بوتسوانا وأنجولا، والبلاتين فى جنوب إفريقيا وزيمبابوى. كما توجد احتياطيات من اليورانيوم فى ناميبيا والنيجر وجنوب إفريقيا، ومن الذهب فى غانا وجنوب إفريقيا والسودان، وبالنسبة للحديد، فتتوافر فى جنوب إفريقيا، والمنجنيز فى جنوب إفريقيا والجابون وغانا. أما البوكسيت فيوجد فى غينيا، والليثيوم فى زيمبابوى، والفحم فى جنوب إفريقيا وموزمبيق.
يمثل التحول العالمى نحو الصناعات النظيفة فرصة ذهبية للقارة الإفريقية الغنية بالمعادن الحيوية، فمع تزايد الطلب على المعادن المستخدمة فى صناعة البطاريات، مثل الليثيوم والكوبالت والمنجنيز، فإن إفريقيا، بفضل ثرواتها المعدنية الهائلة، تستطيع أن تلعب دورًا محوريًا فى هذا التحول.
ولذلك، تتشابك مصالح القوى العالمية فى القارة الإفريقية الغنية بالمعادن الحرجة، فبينما تعتمد التكنولوجيا الحديثة والحياة المعاصرة على هذه المعادن، تدور معركة شرسة بين الولايات المتحدة والصين للسيطرة على هذه الثروات الطبيعية. الصين التى استبقت الجميع، تمتلك حصة الأسد فى سوق المعادن الإفريقية، مدعومة باستثمارات ضخمة وبنية تحتية متطورة. ومع ذلك، تسعى الولايات المتحدة جاهدة لاستعادة مكانتها، معتمدة على مشاريع ضخمة مثل سكة حديد الأطلسى، فى مواجهة الطموحات الصينية التى تتجسد فى مشروع سكة حديد تزارا.
• • •
رغم امتلاك القارة الإفريقية ثروات طبيعية هائلة ومساحات شاسعة، فإن مشاركتها فى التجارة العالمية لا تزال محدودة؛ حيث تعتمد بشكل كبير على تصدير المواد الخام، خاصةً المعادن، بدلًا من المنتجات المصنعة ذات القيمة المضافة الأعلى. ويعود ذلك إلى مجموعة من العوامل؛ منها ضعف البنية التحتية، ونقص الاستثمارات فى الصناعة، واعتماد العديد من الدول على الإيرادات السريعة من تصدير المواد الخام دون الاهتمام بتطوير سلاسل الإنتاج المحلية.
-تأثير التضخم على أسعار المعادن: شهد عام 2022 ارتفاعًا حادًا فى معدلات التضخم عالميًا؛ مما أثر بشكل مباشر فى أسواق المعادن. ففى البداية، استفادت أسعار المعادن من التضخم المتزايد، ولكن سرعان ما انقلبت الأوضاع مع قيام البنوك المركزية برفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم. أدى ذلك إلى تراجع النشاط الاقتصادى العالمى، وزيادة المخاوف من الركود؛ مما انعكس سلبًا على الطلب على المعادن، وبالتالى على أسعارها. وبالنسبة لإفريقيا، فإن التضخم المتصاعد قد قلل من جاذبية الاستثمار فى قطاع التعدين؛ مما أثر سلبًا فى نمو هذا القطاع الحيوى.
- تحديات التمويل والسياسات الضريبية: تعانى الدول الإفريقية من تحديات كبيرة فى تمويل أنشطة التعدين، وذلك بسبب ضعف السياسات الضريبية وانخفاض الإيرادات الحكومية. فالحوافز الضريبية التى تمنح لشركات التعدين، رغم أهميتها لجذب الاستثمارات، قد تؤدى إلى فقدان إيرادات ضريبية كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، تواجه الدول الإفريقية صعوبات فى الحصول على التمويل الدولى اللازم لتمويل مشاريع التعدين، خاصة تلك التى تتطلب تكنولوجيات متقدمة، مثل مشاريع استخراج المعادن النادرة. هذا الوضع يضع الدول الإفريقية فى موقف صعب؛ حيث تحتاج إلى إيجاد توازن بين جذب الاستثمارات وتأمين الإيرادات اللازمة للتنمية.
• • •
يمكن القول الآن إن قارة إفريقيا تمتلك ميزة تنافسية بفضل موقعها الجغرافى الاستراتيجى، بالإضافة إلى احتياطياتها الغنية من المعادن الضرورية للصناعات النظيفة التى تشهد إقبالًا كبيرًا عالميًا. ومع ذلك، يتعين على القارة التغلب على التحديات التى تحول دون تطويرها لتصبح منتجة أو مصنعة فى هذا المجال.
وعليه يمكن القول، يُمثل تعزيز سلاسل التوريد فى إفريقيا المحرك الرئيسى لتنمية القارة، فمن خلال توفير بيئة جاذبة للصناعات المتقدمة، تسهم سلاسل التوريد فى خلق فرص عمل وتحسين الأجور، وتنويع الاقتصادات الإفريقية، وزيادة قدرتها على الصمود أمام الصدمات الخارجية.
جانب آخر مشرق يبعث على التفاؤل بمستقبل استكشاف المعادن الإفريقية وتجارتها وهو الوفاء بالأهداف المناخية، حيث يتطلب الاهتمام بخارطة الطريق التى وضعتها وكالة الطاقة الدولية لتحقيق الحياد الكربونى بحلول عام 2050. من الضرورى تسريع وتيرة التغيير لتحقيق هذا الهدف؛ مما يعنى زيادة كبيرة فى الطلب على المعادن خلال العقد القادم.
لتحقيق نمو مستدام لقطاع المعادن فى إفريقيا، يتطلب الأمر نهجًا متكاملا يشمل تعزيز الحوكمة الرشيدة، وتطوير البنية التحتية، وتعميق التعاون الدولى. فمن خلال هذه الجهود المشتركة، يمكن للقارة أن تستفيد بشكل أفضل من ثرواتها المعدنية وتحقق تنمية اقتصادية شاملة.
فى ظل التوسع المتزايد للنفوذ الصينى فى القارة الإفريقية، والذى تجلى فى استثمارات ضخمة فى مشاريع البنية التحتية، تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز مكانتها فى القارة، لا سيما فى مجال المعادن الاستراتيجية، وذلك فى إطار التنافس الاستراتيجى المتزايد بين القوتين العظميين. وتجسيدًا لطموحاتها فى إفريقيا، أطلقت الولايات المتحدة مشروع ممر لوبيتو، والذى يُعد أحد أضخم مشاريع البنية التحتية التى تدعمها فى القارة حتى الآن. وقد أكد الرئيس الأمريكى المنتهية ولايته جو بايدن خلال قمة العشرين دعمه لهذا المشروع الاستراتيجى الذى يهدف إلى ربط ثروات الكونغو الديمقراطية وزامبيا من المعادن النفيسة بالأسواق العالمية؛ مما يعزز النفوذ الأمريكى فى المنطقة. روجت حكومة بايدن لهذا المشروع كبديل جديد للتعاون بين الولايات المتحدة والدول الإفريقية، بهدف الاستفادة من قدرة واشنطن على تعبئة رأس المال الخاص للاستثمار فى البنية التحتية فى إفريقيا، كما يركز المشروع على مجالات رئيسية أخرى مثل التكنولوجيا الرقمية، التخفيف من آثار تغيُّر المناخ، وأمن الطاقة.
يمثل مشروع ممر لوبيتو استجابة مباشرة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث تسعى الولايات المتحدة من خلاله إلى تحدى النفوذ الصينى المتزايد فى القارة الإفريقية، لا سيما فى مجال البنية التحتية والتجارة. وتعتبر السيطرة على سلاسل توريد المعادن الحيوية، والتى تعد حجر الزاوية فى الاقتصاد العالمى الحديث، محورًا أساسيًا لهذا التنافس.
استثمرت الصين مبالغ طائلة، تجاوزت التريليون دولار، فى مشاريع عالمية لضمان توفير المعادن النادرة التى تدعم التحول نحو الطاقة النظيفة؛ مما جعلها رائدة فى بناء سلاسل توريد هذه الموارد الحيوية التى تشهد حاليًا منافسة جيوسياسية شديدة. على الرغم من الانطلاقة القوية، واجهت مبادرة الحزام والطريق تحديات متزايدة فى السنوات الأخيرة، نتيجة للتباطؤ الاقتصادى العالمى، وتزايد أعباء الديون فى العديد من الدول المشاركة، والتحديات الداخلية التى تواجه الصين. وقد انعكس هذا التراجع فى انخفاض الاستثمارات المرتبطة بالمبادرة بشكل ملحوظ. نتيجة لذلك، بدأت بعض الدول الإفريقية، مثل أنجولا وزامبيا، فى إعادة تقييم علاقاتها مع الشركاء التقليديين، وتوسيع نطاق تعاونها مع الغرب، كما يتضح من الزيارة الأخيرة للرئيس الأنجولى إلى الولايات المتحدة.
رغم التحديات التى واجهتها مبادرة الحزام والطريق، فإن الصين لا تزال تتمتع بنفوذ قوى فى القارة الإفريقية، فقد نجحت فى ترسيخ مكانتها كشريك تجارى واستثمارى رئيسى، وربطت نفسها بشبكة واسعة من العلاقات الدبلوماسية. هذا النفوذ العميق يشكل عائقًا كبيرًا أمام جهود الولايات المتحدة لبناء شراكات جديدة فى القارة؛ حيث تأتى هذه الجهود متأخرة نوعًا ما.
تواجه جهود تطوير قطاع المعادن فى إفريقيا تحديات كبيرة، من بينها الحاجة إلى إثبات الجدوى الاقتصادية للمشاريع، وتوفير البنية التحتية اللازمة، وتطوير القدرات المحلية. بالإضافة إلى ذلك، فإن قرارات بعض الحكومات الإفريقية بحظر صادرات السلع الخام قد يؤدى إلى نقص فى المعروض من الخامات اللازمة للصناعات التحويلية المحلية؛ مما يعقد عملية تطوير القطاع.
خلاصة القول، من المتوقع أن تتبنى الدول الإفريقية نهجًا دبلوماسيًا حذرًا فى التعامل مع المنافسة المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة على ثروات القارة. فالدول الإفريقية تسعى إلى حماية سيادتها ومصالحها الوطنية، وتعمل على استغلال هذه المنافسة لزيادة مكاسبها الاقتصادية. انطلاقًا من الأهمية الشديدة لهذه المواد، تشكلت خريطة عالمية لمكامن ومناطق إنتاجها واستهلاكها وتصديرها، وأصبحت الاحتياطات الاستراتيجية منها أهم من الوقود الأحفورى فى حد ذاته، فالعالم يتجه - ولو بخطى بطيئة - نحو ما يسمى الاقتصاد الأخضر والرقمى، وخفض الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية، وتُمثل هذه المعادن الحرجة عاملًا مهمًا فى أسباب هذا التحول الطاقى.
أحمد سلطان
المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية