آثار التكنولوجيا.. وتكنولوجيا الآثار - محمد زهران - بوابة الشروق
السبت 28 ديسمبر 2024 11:56 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

آثار التكنولوجيا.. وتكنولوجيا الآثار

نشر فى : الجمعة 27 ديسمبر 2024 - 7:25 م | آخر تحديث : الجمعة 27 ديسمبر 2024 - 7:30 م

 كنت أقضى عدة أيام فى الإسكندرية، التى أحب قضاء وقتا طويلا بها لقربها من قلبى ولأن لى الكثير من الأصدقاء الأعزاء هناك. المهم أثناء تواجدى هناك زرت مع الأصدقاء «عمود السوارى» ومقابر «كوم الشقافة». هذا العمود أقامه أهل الإسكندرية للإمبراطور الرومانى دقلديانوس فى القرن الثالث الميلادى. العامود طوله الكلى بما فيه التاج والقاعدة وجسم العامود أقل قليلا من 27 مترا. جسم العامود نفسه مكون من قطعة واحدة من الجرانيت الأحمر طولها أقل قليلا من 21 مترا. ما الغرض من هذه المقدمة؟

  • العامود تم نحته بدقة شديدة وكقطعة واحدة، كيف تم ذلك؟ نحن نتكلم عن القرن الثالث الميلادى. ما هى التكنولوجيا التى يمكنها عمل ذلك فى ذاك الوقت؟ طبعا الآثار الفرعونية تطرح نفس السؤال وبشدة.

  • الجرانيت الأحمر فى مصر موجود فى أسوان. كيف تم نقل عامود بهذا الحجم والوزن من أسوان إلى الإسكندرية؟ الإجابة الجاهزة هى بالمراكب. لكن كيف تم وضعه على المركب؟ وما هو حجم المركب التى تحتمل هذا الوزن؟ وكيف تم إنزاله ووضعه فى مكانه الحالى؟ 

  • واجهت الإسكندرية عدة زلازل مدمرة فى تاريخها الطويل، أحد هذه الزلازل دمر فنارة الإسكندرية الشهيرة وأغلب المدينة، وظل عامود السوارى بارتفاعه الشاهق على حاله، ما هى التكنولوجيا المستخدمة كى تضمن ذلك؟

إذا زرت مقابر «كوم الشقافة» فى الإسكندرية فستتساءل كيف تم بناء أربعة أدوار تحت الأرض بكل الحجرات والممرات بهذه الدقة؟ الأمثلة كثيرة جدا فى تاريخنا القديم كله منذ عصر الأسرات الفرعونى وحتى عصور متأخرة. ما نراه عندما ننظر لآثارنا بعين متفحصة هو فى الحقيقة آثار التكنولوجيا. هذه التكنولوجيا القديمة مازلنا لم نزل الغطاء عنها كاملة بعد.

باقى المقال يتحدث عن عصرنا الحالى، كيف يمكن للتكنولوجيا الحالية أن تساعد فى اكتشاف الآثار وإزالة الغطاء عما قد يخفى علينا، معرفة الماضى فوائده أكثر بكثير من مجرد عوائد اقتصادية تأتى من السياحة.

•  •  •

تكنولوجيا العصر الآن هى الذكاء الاصطناعى وقد تحدثنا عنها فى العديد من المقالات السابقة، ولكن اليوم نحاول التركيز على كيفية استخدامها لخدمة علم الآثار.

الذكاء الاصطناعى يمكنه تحليل صور الأقمار الاصطناعية والخرائط ثم تحديد أفضل الأماكن للتنقيب عن الآثار، وقد قام العالم السويسرى جينو كاسبارى (Gino Caspari) بتصميم برنامج يعتمد على تعليم الآلة فى القيام بذلك. الموضوع ما زال قيد البحث لكن النتائج مبشرة جدا. هل نجد من يقوم بمشروع تخرج أو رسالة ماجستير أو دكتوراه فى هذا الموضوع؟

التنقيب قد يجد قطعا متناثرة أو محطمة أو مطموسة لأثر ما، الذكاء الاصطناعى يمكنه بناء شكل ثلاثى الأبعاد للقطعة الأصلية. طبعا يجب أن نضع فى الاعتبار أن تلك البرمجيات قد تخطئ، لذلك يجب أن يدرس علماء الآثار نتائج تلك البرمجيات ويحللونها ثم يقررون إذا ما كانت صحيحة، مثلا إذا كان النموذج الذى بنته البرمجيات يتوافق مع تصاميم هذا العصر الذى يتم دراسته. دائما يجب أن نعتبر الذكاء الاصطناعى أداة مساعدة ولا نأخذ إجاباتها كأمر مسلم به، وذلك فى جميع المجالات.

الذكاء الاصطناعى يمكنه تحليل النصوص القديمة وفك رموزها، إذا تم تدريب تلك البرمجيات على بعض النصوص القديمة ومعانيها فإنه يمكنه ترجمة نصوص أخرى تحتوى على كلمات أو رموز جديدة لم يتم تدريبه عليها. هناك بعض الآراء تقول إننا نفقد الكثير من اللغات وإننا فقدنا أكثر من ثلاثة أرباع اللغات التى تكلمتها البشرية، طبعا هذا مجرد رأى وليس نهائيا ولكنه يعطينا الضوء الأخضر لنحاول الوصول إلى تلك اللغات لأنها ستساعدنا على معرفة الحضارات القديمة بدقة أكثر وستساعد أيضا علماء اللغويات.

التنقيب يكشف النقاب عن قطع أثرية تنتمى لعصور (أو أسرات مختلفة)، علماء الآثار لهم طرقهم فى معرفة العصر الذى تنتمى إليه تلك القطع سواء عن طريق التأريخ بالكربون المشع أو الاعتماد على صفات أخرى، لكن تظل هناك فجوات فى تلك المعرفة والذكاء الاصطناعى يمكنه المساعدة فى ذلك عن طريق قدرته فى التعرف على الأنماط ومقارنتها.

كل ما ذكرناه ليس سحرا لكنه يعتمد على استخدام برمجيات الذكاء الاصطناعى خاصة تعليم الآلة (machine learning). لاستخدام تلك البرمجيات يجب «تعليمها» أولاً. هذا التعليم يتم عن طريق البيانات التى جمعها وصنفها علماء الآثار والتاريخ والجغرافيا فى المجال الذى نريد أن نستخدم الذكاء الاصطناعى فيه. هذا معناه أننا يجب أن يكون عندنا أرشيف رقمى لتلك البيانات التاريخية. بدون بيانات للتدريب فالذكاء الاصطناعى لا يعول عليه.  

•  •  •

كل ما ذكرناه فى هذا المقال يجعلنا نطرح العديد من الأسئلة المهمة التى قد تساعد الإجابة عنها فى جعل مصر قبلة لعلماء الآثار والتكنولوجيا والتاريخ بالإضافة طبعا إلى السياحة وعوائدها والقوة الناعمة وآثارها:

  • هل هناك تعاون بين كليات الآثار وكليات الهندسة وكليات الحاسبات؟ إذا كانت الإجابة بالنفى فلنبدأ الآن، هناك الكثير مما يمكن تحقيقه بهذا التعاون.

  • هل كليات الآثار وكليات الآداب بها مواد دراسية عن الذكاء الاصطناعى وكيفية استخدامه فى العلوم الإنسانية؟

  • هل نزاوج بين التكنولوجيا والآثار حتى نروج لآثارنا بطريقة حديثة تبهر العالم؟

  • هل نحتفظ بأرشيف رقمى لكل آثارنا وأماكن التنقيب والقطع الأثرية والكتابات.. إلخ؟ هذا الأرشيف لا يساعد فقط الباحثين لكنه يساعد فى تدريب برمجيات الذكاء الاصطناعى على القيام بالمهام التى تحدثنا عنها فى هذا المقال وأكثر.

العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعة تربط بينها التكنولوجيا.

محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات