على الباب تعالت الأصواتُ واحتدَّت الكلماتُ، وتشبَّث كلٌّ بمَوقفه لا يريد أن يتزحزحَ عنه قيدَ أُنمُلة؛ المرأةُ الأنيقةُ تحاول إقناع الرَّجُلَ الذي يطُلُّ عليها مِن نافذةِ مَكتبه، بأنَّ مِن حقّها الدخول بصُحبتِها كاملةً، فيما الرَّجُلُ يُرَحّب بها وبأولادِها، ويرفُض امرأةً أخرى تقف على بُعد خُطوات مِنهم وعلى وجهِها علامات مُحايدة.
***
تتعلَّل المرأةُ التي تستمِر في المُجادلة بأنها لم تكُن تعرف، وأن أحدًا لم يبلغها بالأمر مِن قبل، ومادامت على جهلٍ تام به، فلا يُمكِن أن تتراجَع؛ خاصةً والتعليمات التي يتعَلَّل بها الرَّجُل حديثةٌ؛ لا لافتة واضحة تحملها ولا تنبيه سابق بشأنها. المرأةُ مُتفاجِئة لكنها لا تتخلَّى عن عنادِها، ومَسئولُ الأمْن قد فاض به، والمُشادَّة تبدو في مُجملِها متكررة؛ يشهدها الزوار مرات عدة في اليوم الواحد.
***
ثمَّة مُربّية في أواسط العمر، وجهُها آسيويّ القسمات، وظيفتها كما هو مُتوَقَّع أن ترعى الأولاد. تحرسهم أثناء اللعبِ وتُلبّي طلباتَهم الكثيرة، تعِد لهم الوجباتِ أو تذهب لشرائها، ترتّب كُتُبَ المذاكرة وتُجهّز الملابس؛ وما إلى ذلك مِن أعمال تُضَاف إليها بعضُ الأحيان أعباءُ تنظيفِ المنزل؛ ما لم تكُن هناك امرأةٌ أخرى تؤديها.
***
أصرَّ الرَّجُل على مَسئولية العائلة عن إحضار المعطف الأبيض المَنصوص عليه مِن قِبَل الإدارة؛ كي ترتديه المُربّية أثناء زيارتها النادي. لا يُمكِن قبولُها بين الأعضاءِ دون معطف. مِن ناحيتِها؛ أصرَّت المَخدومةُ على تخطّي العقبةِ مُستبعِدة أن تعودَ بالبنتين والولد إلى المنزل بعد أن وصلوا جميعًا على مَشارف الباب. مُصطَنِعًا الهدوءَ والحِكمةَ؛ حاول الأبُ استرضاءَ مَسئولِ الأمن؛ لكنه لم يفلح فانقلب بدوره إلى حالِ الصياحِ والاحتدادِ، وانضمَّت البنتان وأخوهما إلى الحفلِ ببعضِ البكاء، مع التذكيرِ بوعودِ الزلابية المُغطَّاه بالشوكولاته والكريب والبطاطس.
***
لم تتحرك المُربّيةُ التي تنتظر على بُعد خُطوات انتهاء المَشهد شبرًا واحدًا، جعلت تراقب السجالَ الدائر في صَمت تام دون أن تنطقَ كلمةً واحدة أو يَصدُر عن ملامِحها أي تعبير. لا يعرف العابرون ببوابة النادي إن كانت تفهم المُفردات المُتطايرة من حولها، أو أنها لا تعرف مِن اللغة العربية ما يَسمح لها بالاستيعاب، وبإدراكِ طبيعةِ التراشُقات التي تتصاعد مع مرور الوقت، في غياب حلّ يُرضي الطرَفين.
***
الأكيد هو شعورها بأن الموقفَ المعقد مُعلَّقٌ بها، وأن الكلَّ مُلتفِت إلى وجودها، خاصة مع الإشارات والتلويحات التي انطلقت صوبها من أيدي المتشاحنين. ربما أخافها الاهتمام المفاجئ وأربكها، وربما تسبب أيضًا في إسعادها؛ فالظن الغالب أنها قضت وقتًا طويلًا على الهامش، ثم إذا بها تصبح في قلب الأحداث بل وفي جانب واحد مع مخدومتها التي تدافع عنها بحمية وحماسة.
***
لم يكُن في المَوْقف ما يلفت النظرَ سوى الدقائق الطويلة التي استغرقها، ولم يكُن مَسار النقاش مُتشعبًا. لم يتطرَّق أحد إلى الفكرةِ نفسها؛ فكرةُ التمييز بين المرأةِ المُربّية والمرأة الأخرى؛ أي "أخرى" تسير في النادي حُرَّة لا تحمل علامةً تُصنّفها وتُحدّد وضعَها، والحقُّ أن إجبارَ شخصٍ في هذا السياقِ على ارتداءِ زي بعينه يحملُ مِن التمييز ما يستحق الوقوفَ أمامه، وفيه مِن العنصرية ما يصعُب تجاوزه، خاصة مع وجود اختيارات لا تحمل قدرًا مِن الإهانة.
***
مِن الطبيعيّ أن تُعطَى المُربّية بطاقةً تُتيح لها دخولَ المكان بصُحبة الأسرة التي تخدمها، وأن تظهِرَها للمَسئولين ما طلبوا مِنها إظهارَها، أما علامةٌ أخرى تتعلَّق بجسدِها، فمُحاكاة مُزعِجة لعهودٍ مُخيفة، ولا ينسى التاريخُ علاماتٍ وأختامَ كانت تُوضَع على أجسادِ العبيد هنا وهناك، وأخرى على بيوتِ اليهود وبعضِ الأقليات. الهدفُ المُعلَن جَهارةً كان تمييزَ الأدنى مَرتبةً وَسطَ المُجتمع وجَعله ظاهرًا مَعروفًا، مُستحقًا لمُعاملة أقل احترامًا وأكثر قسوةً وجفافًا. النماذجُ في هذا الإطار عديدةٌ؛ إنما تجاوزها الزَّمنُ وتركها وراءَه.
بغَضّ النظرِ عن قِيمِ الإنسانية والمُساواة التي يُمكِن الحديثُ عنها باستفاضة، ثمَّة سؤالٌ لم يحظ بإجابة. تُرى ما الهدف مِن المعطف الأبيض في حالنا هذه وعلام يدل؟ ما الأهمية القُصوى التي يَحوزها ولماذا تصدر به تعليماتٌ صارمةٌ تستدعي العِراكَ والمَنع؟ يقينًا؛ لا يتعلَّق الأمرُ بصالِح المُربّية. ليس تكريمًا لها مثلًا ولا حماية، ليس مفتاحًا يعطيها مكانة أعلى، أو يجعل لها أولوية في خدماتٍ تُقدَّم للأعضاء؛ كونها ترعَى أطفالًا.
***
المعطَفُ هنا ليس إلا علامةً جديدةً ضِمن مَجموعة علامات تشير إلى فئةٍ مِن البشر وتصِمُها. تؤكد انتماءَها إلى طبقةٍ أقلَّ شأنًا، وتسمح للسادةَ مِمَن ينتمون للطبقاتِ الأعلى بسُلطةٍ يمارسونها عليها في صورة أو أخرى. المعطفُ علامةٌ وأكَم مِن علامات في يومِنا هذا تنغرسُ في لحومِنا وتترك أثرًا مُزمنًا.