نشر موقع درج مقالا للكاتبة باسكال صوما توضح فيه الدمار والمأساة التى نتجت من الوصاية السورية، أو ما تصفه الكاتبة بالاحتلال السورى، على لبنان ودخول الجيش السورى الأراضى اللبنانية سنة 1976 بهدف طرد الجيش الإسرائيلى من لبنان فى ظل الحرب الأهلية اللبنانية، وهو الدمار الذى لم يُعترف به حتى الآن، مما جعل فكرة المسامحة مستحيلة وألقى بانعكاساته على طريقة معاملة اللاجئين السوريين الآن فى لبنان... نعرض منه ما يلى:
فى الذكرى الـ15 لانسحاب الجيش السورى من لبنان، تشهد أبنية مدرسة الآباء البيض فى بلدة رياق البقاعية على جزء صغير مما فعله النظام السورى فى البلاد.
الصورة هنا تبدو واضحة، والمأساة لم تنتهِ. الشجر المزروع هناك، لا يكفى لبثّ السلام فى المكان. يشعر الواحد فى الأرجاء بأنّ صراخ المعذّبين والمعتقلين ظلما يخرج من الجدران والنوافذ المحطّمة. منظر الأبنية المعرّاة من أبوابها ونوافذها، يُشعرك بأنّ أحدهم نفّذ انتقاما كاملا فى هذه الرقعة من الكرة الأرضية، ولم يكن مجرّد «وصاية» أو مصادرة لمدرسة عريقة. لقد انتقم الجيش السورى من الحيطان حتّى!
قبالة بيتنا منزل كان صادره الاحتلال السورى وعاش فيه الجنود لسنوات طويلة، تماما كبيوت كثيرة تحوّلت إلى ثكنات أو بيوت لإقامة الجنود، هكذا من دون اعتبار لمالكى هذه الأمكنة أو كرامتهم أو مصيرهم.
لقد تحوّل ذاك البيت إلى مجزرة، لا يمكن وصفها. ربّما أصحابه ما زالوا مسكونين بالرعب حتى الآن وربّما قرّروا إبقاءه كما هو، كشاهد على «مناقبية» النظام السورى. لا أبواب، لا نوافذ، الجدران مرقّطة بالأوساخ، كما لو أنّ حربا كاملة حصلت فى هذا المكان. أتذكّر أننى كنت أمرّ من هناك قبل الانسحاب، بقدمين صغيرتين مرتعبتين وقلب يخفق بقوّة، وحين كنتُ أخاف كثيرا فى العتمة، كان السبب خشيتى من أن ينقضّ على واحد من أولئك الجنود ويخطفنى.
أتذكّر أن بيتنا المحاط ببقايا ثلاثة مراكز للسوريين كان يمنع فيه الحديث فى السياسة. حتّى أننا كنّا نشجّع فريق «الحكمة» الرياضى بصوتٍ منخفض، لأنه كان محسوبا على «حزب القوات اللبنانية» والمسيحيين، ومن معهم فى الخط المنادى بخروج الجيش السورى من لبنان آنذاك.
إنها جولة صباحية متعبة بين حطام الجيش السورى فى قريتنا، انتهت فى السكك الحديد حيث سُرق كل شىء، وكُتب على بقايا القطارات «سوريا الأسد».
***
أفكّر فى فكرة المسامحة، وأشعر بأنها مستحيلة. هذه البيوت والمدارس والمراكز التى صادرها نظام آل الأسد، من يعوّض خسائرها، من يسأل أهلها عن وضعهم وظروفهم؟
يطالب الأرمن تركيا بالاعتراف بتنفيذها إبادة بحقهم وبحق السريان والكلدان والآشوريين منذ 105 سنوات، هذه شجاعة علينا أن نتعلّم منها. على أحد أن يطالب النظام السورى بالاعتراف على الأقل بأنه سرقنا واعتقل أهلنا وصادر بيوتنا ودمّرها واستولى على مؤسساتنا وحطّمها أيضا. على أحد أن يسأل مثلا، ماذا عن 600 معتقل لبنانى فى أقبية السجون السورية؟ ألم يكن الرئيس ميشال عون من حارب جيش الأسد و«انتصر»؟ ألم يكن من قال بترطيب الأجواء مع النظام بعد خروجه من لبنان؟ لماذا لم يسأل أصدقاءه وحلفاءه عن المعتقلين مثلا؟ ونظامنا الأخرق، هل يعرف جارتنا أم بشارة، التى اعتقل جنود الأسد ابنها بشارة منذ عشرات السنين، وما زالت تنتظر أن تراه قبل أن تغادر العالم؟
هناك من عمل على تدريبنا على النسيان، وكأنّ السؤال عن المعتقلين فى سجون الأسد أصبح «كليشيه» مملا وعلينا أن نسير إلى الأمام، وغضّ النظر عن كل الذين ما زالوا ينتظرون عودة أحبائهم وإن جثثا.
***
عام 2018 أقر البرلمان اللبنانى قانون «المفقودين والمخفيين قسرا»، الذى من شأنه أن يساهم فى الكشف عن مصير آلاف اللبنانيين الذين اختفوا خلال الحرب الأهلية. وبعدها لم يحدث شىء. لم يعد أحد. لم تُكشف قصّة واحدة ولم يُتّهم رجل واحد بجريمة واحدة.
ثمّ يأتى فى خلاصة كل شىء من يقول بفخر «سيادة الرئيس بشار الأسد انتصر على داعش والنصرة»، وهذه عقلية سيغضبها كثيرا ألا تلفظ اسم سفّاح سوريا بهذه الطريقة. وإن سلّمنا جدلا بفكرة أن النظام قد هزم المتطرّفين من أجلنا ومن أجل «ألا تُغتصب نساؤنا وتُسبى بناتنا»، أين كانت تلك البسالة حين كنا نرزح تحت احتلال مرعب، صادر قرارنا واعتقل شبّاننا وسرق مقتنياتنا؟ أين كانت تلك البسالة حين كان الشبان والشابات يتظاهرون أمام الجامعات للمطالبة بالخروج السورى من لبنان وكانوا يُساقون بقسوة إلى التحقيق وثكنات الظلمات؟ والمؤسف جدا أن بين هؤلاء الشبان والشابات الكثير من مناصرى «التيار الوطنى الحر»، الذى أنهى بشكل انتهازى خصومته مع النظام السورى من دون أى اعتبار لمصلحة البلاد وحقّ هؤلاء الذين ماتوا واعتقلوا وأُهينوا بسببه. ولأجل اكتمال مشهد التناقض، ما زال التيار نفسه يحتفل بذكرى 13 أكتوبر على قاعدة أنه «نصر» على الجيش السورى.
ويأتى أيضا من يريد الدفاع عن نظام الأسد من حافظ إلى بشار، بحجّة أنه قائد محور الممانعة الذى يريد محو إسرائيل واستعادة القدس فى المكان والزمان المناسبين. وعلى رغم أن هذا النظام باع الجولان كما يبيع جارنا ربطات المعكرونة والفجل، ولم يترك لهؤلاء حجّة للدفاع عنه، ولكنّهم يدافعون!
ويأتى أيضا «العهد القوى»، لا سيما صهره النجيب جبران باسيل، ليخبرنا أنه يريد إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم عبر التواصل مع النظام السورى. وكأننا لا نعرف «البير وغطاه»، ولا نعرف أن هذا النظام أنكر شعبه وهو طبعا لا يريدهم أن يعودوا ويعرقلوا خططه مع الروس والإيرانيين. لكن لسبب ما يريد جبران ببراءة تامة فتح قنوات تواصل مع سوريا الأسد. إنها البراءة ذاتها التى نُهبت بها أموالنا واستبيحت غاباتنا وأرزاقنا وبدل ذلك أهدونا بواخر وسدودا وهواء!
ووسط ذلك كلّه، يحضر الخطاب العنصرى من أكثر من حزب وجهة، ليصبّ جام غضبه على السوريين الفقراء واللاجئين. إنه خطاب غير قادر على مواجهة النظام السورى ورجال أعماله الأثرياء الذين يسرحون ويمرحون بحريّة، دفاعا عن مصالح مشتركة طبعا، إلا أنه يبث الكراهية ويمنع تجوّل اللاجئين السوريين ضحايا نظام الأسد، فى بعض القرى والمناطق. وكلّنا نعرف أنّ جراح الشعب اللبنانى الكثيرة من النظام السورى تجعله يخلط بين الشعب والنظام، وهو خلط تمّت الاستفادة منه لزرع الكره تجاه اللاجئ الذى لا يملك شيئا ويسهل الاعتداء عليه وإهانته، مقابل تبرئة النظام الذى أخذ كل شىء، وهو غير آبه لنا جميعا. والمقصود بـ«جميعا»، نحن وشعبه، والسلام.
النص الأصلى
https://bit.ly/2VGRQ3R