على مائدة جمعتنى بعددٍ من الأصدقاءِ والصديقات، ظهرت حبَّاتُ التمر بين الأيدى رغم انقضاءِ شهر رمضان. اكتشفت أن الجالسين جميعَهم يُفضلون التمُورَ الطريَّة، بالغةَ الحلاوة، التي تذوبُ في سهولةٍ عند وضعها بالفم، وأنني وحدى أميلُ إلى البلح الناشفِ الذى يحتاجُ جهدًا فى قَضمِه ومَضغِه، وتقلُّ حلاوتُه عن غيره وتبقى فى اعتدال، ولم يكُن منه سوى ما جلبت معى.
• • •
يأتي الفعلُ نَشِفَ بكسرِ الشين في قواميس اللغة العربية بمعنى جَفَّ، ويُقال: نَشِفَت الملابس إن تبخَّرت منها المياه، ونشِفَ الهواءُ إن فارقته الرطوبة، أما الفعل نشَّفَ بتشديد الشين فيحتاج مَفعولًا به كأن يُقال مثلًا: نشَّفت ريقى، والمعنى أتعبتنى وأرهقتنى وأصابتنى بالإعياء. المنشفةُ هي قطعةٌ من نسيج، تُستخدَم لأغراضِ التجفيف، أما النواشف فتُعرفها المَعاجمُ على أنها مأكولاتٌ باردةٌ لا يتم طبخُها؛ والتعريف على هذا المنوال يَفتقر إلى بعضِ الدِقَّة والتحديث.
• • •
عادة ما تُخصَّصُ لضيوفِ النَّدوات والمُحاضرين أكوابُ مياه، تُوضَع على المنصَّات التي يجلسون إليها، والغرض أن يُبللَ الواحد منهم فاه بين الحين والآخر ما طال به المقام، فاللسانُ إن نَشِفَ وجَفّْ؛ تحشرج الصَّوتُ، وفقد نعومتَه وسلاسةَ مَخرجَه.
• • •
في زمنٍ ولَّى كانت جدتى تبدأ إعدادَ المُلوخية الخضراء بقطفِ أوراقِها ثم غسلِها جيدًا، ونثرِها على سَطحٍ مَكشوف كى تَنشفَ قليلًا قبل عملية الخرط. أذكر أنها كانت تُضيفُ عودًا مُقسمًا إلى قطعٍ صغيرٍة كي يُعطيها ذاك القوامَ الخاصَ الذي يُسمَّى «عِرق» والذي يُميز الطاهيَ الماهرَ عن غيره. أدركت بعد أعوامٍ من رحيلها ذاك الفارقَ الشاسعَ بين ما تصنع اليدُّ بحدبٍ ومَحبَّة، وبين ما يُجهَّز بطريقة آلية لا مُبالية، بين الطازجِ الذي لم يَزلْ عامرًا بروحِ الأرض، وبين ما يُعبأ جاهزًا في الأكياس، ويُجمَّد فى المُبردات، وتمُر عليه أشهرٌ طِوالٌ قبل أن يجدَ طريقَه إلى المائدة.
• • •
يتمتَّع بعضُ الناس بقُدرةٍ هائلةٍ على التشبُّث بآرائهم، حتى وإن تيقَّنوا من خطئها وأدركوا صِحةَ الرأي المُعاكس. هم عنيدون، يَصعبُ إقناعهم بشىء، ويستحيلُ دفعهم للتخلى عما اعتقدوا فيه. يُقال عن الواحد مِن هؤلاء إن دماغَه ناشِف؛ أنشفَ مِن حَجَر، والمعنى كاشفٌ، فالحَجَر لا يلين إذ تعوزه المُرونةُ وتنقصه القدرةُ على الاستجابةِ بغير الكَسرِ والتفتت.
• • •
بعضُ الأحيان لا تُجدى المُعامَلةُ الطيّبةُ الودود ولا يُؤتي التسامُح ثمارَه المرجوَّة؛ وإذ يطلبُ المرءُ النصيحةَ إزاء مَن تجاوَزَ في حقّه، تأتيه: انشَف عليه، أىْ تعامَل معه بشىءٍ من الشِدَّة لعلَّها تُصلِح من أمرِه ما فَسَد، وإن يَسُق امرؤٌ العَوَج؛ يكُن على القَولِ الهازِل: سَكتنا له دَخل بحمارِه.
• • •
تقول الأمثولةُ القديمة: «سيدنا مُوسى مَات.. ناشِف طرى هات». القولُ قديمٌ ومَنسوبٌ إلى جماعةٍ يَهود، ومعناه أن مَن كان يمنعنا عن الإفراطِ قد ذَهَب، ولم يعد هناك حاجزٌ بيننا وبين ما نريد أن نفعل. الناشِفُ والطرى يشيران هنا إلى المَأكول، والمَجاز واضح جلىٌّ، تؤكده المَقولةُ الطريفة: «إن غابَ القِط؛ العب يا فأر».
• • •
يُحيلُ تعبير «عُوده ناشِف» إلى الصلابة والقُّوة؛ هذا إذا كان المَقصود رجلًا، أما إن ذُكرت به امرأةٌ؛ فإشارةٌ مُحتمَلة إلى نحافتِها الظاهرة، والاستعارة هنا قد مضى عهدها، ومَضَت أيامٌ كان ثِقلُ وَزن المرأةِ فيها؛ علامةً على خروجِها من بَيت كرمٍ ووَفرة، فإن قلَّ شحمُها ودهنها؛ كانت مَعيوبةً، ووُصِمَ أهلوها بأنهم مُتواضعو الحال، والحقُّ أن السمنةَ لا تشى دومًا بالعزّ والرفاهة، ولا بالصِحَّة؛ إنما قد تعكسُ نمطَ غذاءٍ سيئًا ناتجًا عن الفقرِ والحاجة.
• • •
إذا قيلَ عن شَخصٍ إن يدَه ناشِفةٌ؛ فالقصد أنه بخيلٌ، مُقتر، لا يُعطى إلا بصعوبةٍ وتحت ضغط؛ لكن هذا ليس بالمعنى الوحيد، فاليدُّ الناشِفةُ تكنى الشدةَ والبأسَ عند العِراك، وقوةَ القبضةِ عند التَّضَارُب، والفصلُ بين المعنيين مَرجِعه السياق.
• • •
إذا نَشِفَت الأرضُ فجَدبٌ وشرُّ، وإذا نَشِفَت الدماءُ فى العروق فمَوْقِفُ فزعٍ شديد، وإذا توقَّفت عملياتُ البَيعِ والشراءِ؛ وَصَفَ التُجَّار الحالَ بأنها ناشِفةٌ، يقصدون تراجع الزبائن وشُح النقود فى أيديهم وركودَ الأسواق، أما إذا تعرَّض واحدٌ لتجرِبة صَعبة؛ هتفَ به المُحيطون: انشَف، أى تجلَّد وتماسَك وكُن لها، لا تهِنْ أو تنحنِ، ولا تنكسر.
• • •
مِن بين المَأثورات التي لم تعد مَطروقة ولا مُتبعة؛ أن أعط الأجيرَ أجرَه ولم يَنشِف عرقُه بعد، والغرضُ هو المُسارَعةُ بأداءِ الحَقِّ لصاحبه طالما أتمَّ واجبَه وأنجزَ عملَه؛ فالإثابة ما تأخَّرت فتّت فى العَزم، وأطفأت الروح.
• • •
الخبزُ النَّاشِف هو اليابسُ المُتحَجّر؛ يستخدمه نفرٌ من الناس فى طهو وَجبات بعينِها مثل الفتَّة والسَّخينة. فى الأولى يلين المَرَقُ الكسراتِ التي تصلَّبت بفعلِ الوقت، وفى الثانية يؤدى شرابُ السُّكر المَخلوط بالسَّمن الدور ذاته. على كل حال، لم تعد فى الصدر سِعةٌ للتجويدِ والابتكار؛ فغالبُ الناسِ يبحثون عما يُشبِع، دون أن يقضىَ على الميزانيةِ التى صارت مثل خرقة مَليئة بالثقوب.
• • •
«نَشِفت من البَرد» مَجاز طَريف، غرضُه التعبير عن المُعاناةِ من انخفاضِ درجاتِ الحرارة؛ لكنه يبدو على وَشك الانقراضِ من قاموسنا الشفهى، فشتاء هذا العام قد غابَ، وحلَّ محلَّه فصلٌ لا هو بالصَّيف ولا بالربيع؛ لتكتملَ به آياتُ العَبث التى صارت تُلازِمنا كظِلالنا.