توقفت عن تشجيع كرة القدم بانتظام منذ أمد بعيد، ولا أعرف أين يلعب عبدالله السعيد، لكن الفضول حملنى على مطالعة بيان لأحد رعاة كرة القدم، امتلأ به فضاء مواقع التواصل الاجتماعى بصورة لافتة، فوجدته مفككا محمولا على روايات المقاهى وأحاديث الغلمان! مداره أن رموز النادى العريق يلقون بأنفسهم بين أيديه.. هذا «يتصل» به أولا وذاك «يعزم» نفسه على الشاى عنده.. وآخر يهاتفه معاتبا: لماذا لم تسأل عنى فى مرضى!!! وبين تلك الروايات تفاصيل مملة عن شراء فلان وبيع علان.. ولا أكاد أمسك طرفا لخيط حديثه إلا أفلت منى لضعف بنيان الروايات، وإقحام كلمات شعبوية على شاكلة: عشقى هو النادى الأهلى.. وجماهير النادى العريق.. ونحو ذلك!! ملخص البيان أن الرجل لم ينل ما كان يرمى إليه بإنفاق الملايين.. وأن إدارة النادى تراوغ معه وتتردد فى اتخاذ قرارات شراء اللاعبين والمدربين.. وأنه يحب النادى العريق ويمتنع عن رعاية أى ناد آخر يمارس التلحمة لاقتناص الرعاية والدعم نكاية فى غريمه النادى الأهلى.. ولصاحب البيان مزيد من التفاصيل، ربما عن نوع الوجبات التى قدمها على موائده لمن نالهم بالتشهير، أو مزيد من الحط من قيمة رموز رياضية شكلت وعى أجيال مصرية وعربية على مر عقود، وكانت بمثابة عنصر فاعل من عناصر قوى مصر الناعمة، التى تؤثر من خلالها على محيطها تأثيرا جاذبا محمودا.
قبل نحو شهرين من صدور هذا البيان كنت متحدثا فى إحدى جلسات مؤتمر للاستثمار أقيم بالقاهرة، وكان مستثمر خليجى شهير يتحدث إلى جوارى عن أهمية الاستثمار فى عناصر القوى الناعمة فى مصر، وضرب مثلا بفرق الكرة التى يمكن أن تتحول إلى فرق عالمية كبرى، إذا توافر لها الدعم والرعاية.. تدور دائرة الحوار وتعود إلى صاحبنا فمازال ينشئ فى أهمية الاستثمار فى الأندية الرياضية، وعلمى أن محفظته الاستثمارية الضخمة فى مصر تخلو من أى سهم فى هذا المجال! وكنت مهتما بالترويج لبدائل الاستثمار الصناعى فى مصر، والذى يتيح فرصا لنمو الاقتصاد بصورة مستدامة، ويتيح لأصحاب الفوائض البترولية توزيع مخاطرهم وتنويع استثماراتهم عوضا عن المنتج الواحد. استقر فى يقينى حينها صلة هذا الاتجاه الذى يروج له المستثمر الخليجى الشهير، بما يدور من لغط عن راع جديد للكرة المصرية ظهر فجأة وأجج الخلاف بين المتابعين عن رمزية تلك الرعاية وتأثيرها على تاريخ النادى الأهلى.
***
حقيقة لا أجد ما يعيب بحث أى ناد عن مصادر تمويل، مادام ذلك التمويل ــ وسبل إنفاقه ــ منضبطا ومحوكما ويتصف بالشفافية اللازمة. ومادام هذا التمويل لا يفقد النادى استقلاليته وقدرته على اتخاذ قراراته وفق آليات اتخاذ القرارات المختلفة وتحت ناظرى مجلس إدارته وجمعيته العمومية التى تمثل السلطة العليا فى اتخاذ القرارات الحيوية لأى كيان. لا مانع أن يمنح الراعى رئاسة مجلس أمناء، أو يقلد منصبا شرفيا غير تنفيذى إذا التزم فى مقابل هذا بما يجرى على مختلف الرعاة من أصول وضوابط.
المبلغ الذى تناوله بيان الشيخ والذى صفع القراء ليس مبلغا كبيرا فى عرف ما تنفقه الأندية الكبرى وما تستقبله من أموال خلال الموسم الكروى الواحد. من المؤسف أن تلك اللعبة تستحوذ وحدها على تدفقات مالية بمئات المليارات من الدولارات. وفقا لتقرير «ديلويت» Annual Review of Football Finance 2017 نجد أن سوق كرة القدم الأوروبية، وتحديدا مسابقات الدورى الخمس الكبرى فى أوروبا، نمت إيراداتها الإجمالية فى العام المالى 2015 / 2016 بنحو 12% وبقيمة 1.4 مليار جنيه استرلينى، 59% من هذا النمو يرجع إلى ارتفاع إيرادات حقوق البث التى تحصل عليها الأندية نظير إذاعة مبارياتها، وهو مصدر مهم للدخل، ساهم فى السنوات الأخيرة بشكل كبير فى الحفاظ على كثير من أندية الدورى الإنجليزى الممتاز، 31% من ذلك النمو فى الإيرادات يرجع إلى ارتفاع إيرادات الرعاية وغيرها من إيرادات تجارية. نفس الشىء يمكن قوله عن مسابقات الدورى الإسبانى والإيطالى والألمانى والتى استفادت من ترتيب جديد لحقوق البث عظم من إيرادات الأندية.
المنافسات الاحترافية للألعاب الالكترونية والتى نالت حظا من اهتمام وبيان الشيخ، خرجت عن كونها نشاطايمارسه الصفوة فى حدود ضيقة إلى تجارة رائجة خاصة بعد أن ارتفعت تقديرات المتابعين لسوق تلك المسابقات إلى نحو 1.8 مليار شخص بحلول العام 2020، هذا يرفع الإيرادات العالمية لتلك السوق إلى 1.5 مليار دولار. هذه الأرقام الكبيرة حظيت باهتمام الكثير من الاندية حول العالم، وبالطبع حظيت باهتمام «رعاة» تلك الأندية (راجع تقرير ديلويت).
***
فلنضع جانبا عشق صاحب البيان للنادى الأهلى، وتشجيعه المخلص للفريق، الأمر كله استثمار ولا عيب فى ذلك. الرجل يريد أن يضخ ملايين فى أنشطة معينة بالنادى، ينتظر منها أن تدر مليارات فى الأجل المتوسط. العائد على الاستثمار هو الذى يحكم قرارات صاحبنا، والنادى عليه أن يبحث عن البدائل التى تعظم العائد على استثماراته وموجوداته ورءوس أمواله ومنها رأس المال المادى والبشرى والسمعة والشهرة وغير ذلك من أصول غير ملموسة يمكن تسويقها وترويجها بشكل مربح للنادى على صعيد صفقاته الرياضية التى تترجم فى صورة مزيد من البطولات (وهو ما يخص الجمهور) وعلى صعيد تحقيقه للأرباح وما يخص أصحاب المال الممثلين فى الجمعية العمومية للنادى.
الرعاية والإعلانات مازالت فى مصر هى الرقم الأكبر الذى تعتمد عليه الأندية كمصدر للتمويل، حقوق البث تحتاج إلى عدد أكبر من المتابعين والمشجعين حول العالم. فى أكتوبر من عام 2015 وقع النادى الأهلى عقد رعاية مع شركة «صلة» السعودية مدته ثلاث سنوات مقابل 250 مليون جنيه مصرى، بنود هذا العقد تظل حاكمة لهذا الاتفاق. لم تعل الأصوات المنددة بحصول النادى على هذا المبلغ من مستثمر سعودى، لأن الصفقة معلنة، ولأننا لا نعيد اختراع العجلة، فهذا العقد ليس الأول بين عقود الرعاية التى توقع يوميا شرقا وغربا. لكن الإفصاح عن الصفقة والشفافية فى التعامل معها قطعا الطريق أمام أحاديث النميمة وتغريدات مواقع التواصل، التى تحمل عناوينها الفضيحة ولا تجد فى التفاصيل سوى أحاديث، تماما كما قام أحد الإعلاميين بتدشين برنامج لنشر الفضائح وعند الاستماع إلى التفاصيل تجد لغو الحديث! لكننا أمة لا تقرأ ولا تعنى بالتفاصيل، وكثيرون يدركون هذا ويعبثون بالعناوين لإحراز أهداف خاطفة فى مرمى الخصوم.
على النادى الأهلى أن يبحث عن بدائل لتمويل خطط التطوير والتحديث التى يصبو إليها بعيدا عن المحافظ المالية المغلفة بمشاعر الحب والإخاء والتى عادة ما تنتهى بطلاق وفضائح! عليه أن يفصل بين أموال التبرعات التى يحصل عليها من المشجعين والمريدين وبين عقود الرعاية التى يجب أن تحقق منفعة للطرفين. عليه أن ينظر إلى إمكاناته بمنظار أوسع وان يدعو من خلال مناقصات ومزايدات عالمية محدودة كبرى الشركات المتخصصة فى مجالات التسويق والرعاية والإعلان، وان تتضمن كراسات الشروط جميع الحقوق التى يحفظها النادى لنفسه، وكافة الامتيازات التى يمكن أن يحصل عليها طرفا التعاقد بعد الإرساء، بعيدا عن العلاقات الودية، وأحاديث العزائم.
الحق أقول، أحب محمود الخطيب، فقد كان سببا فى حبى لكرة القدم، ولا أجد فى نفسى حرجا من نقده إن هو أخطأ، لكننى لا أحمل عليه ولا على مجلس إدارته ما تحمله عليه صفحات النميمة، وتصفية الحسابات.