مِن بين مَشاهِد فيلم رمضان مبروك أبو العلمين حمودة؛ لَقطَةٌ لمُدرّس مُرتعِش، يُلقي في حَضرةِ وزير التعليم بيتَ شعرٍ للمُتنبّي مع بعض التَصرُّف، يقول: "يا أعدَلَ الناس إلا في مُعامَلتي ... فيكَ الخصامُ وأنت الخصمُ والحَكَمُ". الخصمُ عند المُتنبّي كان الحاكِمَ بذاته، أما في الفيلم فهو الوزير الذي عوقب ابنُه الطالب، دون أن يدري المُدرّس بحَسَبِه ونَسَبِه، والبيتُ استباقٌ لما يتوقَّع المُدرّسُ المسكين مِن تنكيل، أما العَدل الذي ينشُده؛ فلا يعدو كفَّ الأذى الوَشيكِ عنه، وغَلَّ اليد التي تعتزم البطشَ به، فيما الفتى المُدلَّل يستأنف لهوَه، عابثًا بالقواعد، مُستهترًا بالنظام.
***
تصفُ مَعاجمُ اللغة العربية العَدْلَ بأنه نقيضُ الجَوْر، هو كُلُّ ما قَرَّ في الأذهان والنفوس مُسْتقيمًا لا تشوبه انحناءاتٌ أو انعطافات. العَدْل حُكْم بالحقّ، وإذا عَدَل الحاكِمُ فقد استقام في حُكمِه، وعَدَل عليه في القضيَّة أي تحرّى الاستقامةَ عند النظر في مُلابساتِها؛ فلم يحد بها أو ينحرف، وقد حكى المؤرخون في سالفِ الأزمانِ عن ولاةٍ بَسَطوا عَدْلَهم؛ فباتوا هانئين براحةِ البال، تلهج الألسنةُ بالثناءِ عليهم واستحسانِ مَسلكِهم. الشخصُ العَدْلٌ هو مَن تجوز شهادتُه وتُقبَل، وهو كذلك مَن يرتضي الناسُ حُكْمَه بينهم، ومِن عجبٍ أن يُقال؛ رجلٌ عَدْلٌ، ورِجالٌ عَدْلٌ، وامرأَةٌ عَدْلٌ، ونِساءٌ عَدْلٌ، لا تُثَنَّى المُفردةُ ولا تُجمَع ولا تُؤَنَّث؛ إذ العَدل هنا مصدرٌ فيه الكفاية والتمام، لا زيادة تلزمه ولا نقصان. إذا عَدَلتَ فلانًا بفلان فقد سوَّيت بينهما، وفي الإطار ذاته قد يُمدَح الشخصُ بقدرِه بين الآخرين فيُقال؛ ما يَعْدِلك عندنا شيءٌ؛ أَي لا يقَع عندنا شيءٌ يكافئ مكانتك وقيمتك.
***
ظَهَرت ماعت ربَّةُ العَدل والحقِّ منذ الآف السنين، قدَّسها المصريون القدماءُ، وأقاموا لها المعابد في مُختلَف الأرجاء. "ماعت" امرأةٌ بأعلى رأسها ريشة مِن ريش النعام، تحمل بيدها مفتاحَ الحياةِ، وفي الأخرى صولجان الحُكم، ولعلّها كانت مِن أهمّ مُكونات الحضارة المصرية في فجر التاريخ؛ إذ جسَّدت الناموسَ الأخلاقيّ الأعظم للملوكِ والولاة؛ تلزمهم بتحرّي الصِدق وتطبيق العدالةِ والمُساواة، ولا غرابة في سموّ مَرتبتها؛ فهؤلاء الذين رفعوها، قد وضعوا اللبناتِ الأولى في صَون حقوقِ البشر وإعلاءِها.
***
كُلَّما أعيتنا الحيلُ تحدثنا عن عدالةِ السماء، وكُلَّما ظهر في الأفق مَن ينتحل مُسوح الأتقياء؛ يُعلي رايةَ الأديان، تصوَّرنا أن في جُعبته عَدلًا يكفي الكونَ، وأنَّا قد وجدنا الحلَّ؛ فإذا طَفَقَت يداه تهدمان أُسُسَ العدالةِ، وتُوجبان على الرعايا الصمتَ والطاعةَ، تَجَلَّت أركانُ الخديعة. يقول أحمد مطر: أوْجِـزْ لـي مضمـونَ العَـدلِ.. ولا تـَفـلـِقـْـني بالعُنـوانْ.. لـنْ تَقـوى عِنـدي بالتَّقـوى.. ويَقينُكَ عنـدي بُهتـانْ.. إن لم يَعتَـدِلِ الميـزانْ.. شَعْـرةُ ظُلـمٍ تَنسِـفُ وَزنَـكَ.. لـو أنَّ صـلاتَكَ أطنـانْ.. الإيمـانُ الظالـمُ كُـفرٌ.. والكُفـرُ العادِلُ إيمـانْ.
***
كثيرًا ما يستخدم الناس تعبير: "فضل وعدل"؛ ليس بالضرورة أن يُقال حين يكون العَدلُ مُتحقِّقًا بذاتِه وكماله، حاضرًا في أبهى صُوَرِه، إنما قليل مِنه؛ يسُرُّ النَفسَ، ويدفع المُشتاقين إلى عَبقِه الزَكيِّ، لإعلان الاكتفاء والرضاء.
***
المُساواةَ في الظُلمِ عَدلٌ؛ فإذا أصاب البلاءُ كُلَّ مَن سار على الأرض، وعانى القاصي والداني مَرارَ العَيش، وطال البؤسُ الناسَ كافةً فساوى بينهم؛ أمكَن الصَبر وجَاز الاحتِمال، أما أن يرتعَ قسمٌ مِن البشر في رفاهةِ المُروج والقُصور والبُحيرات، ويسبح آخرون في مُستنقعاتِ العَطَنِ والشَقاءِ؛ فجوعٌ إلى عَدلٍ وفَرضُ كفاحٍ إلى نوال الحقّ.
***
ثمَّة امرأةٌ مَعصوبةُ العينين؛ مَحفورة في مكانِها، ثابتة، لا تنتظر مُرشِدًا ولا دليلًا، لكنها تؤكد بوجودِها الرمزيّ في قاعات التقاضي، أن العدالةَ عمياءٌ. كان المقصودُ بعماها أنها لا تعرف الفارقَ بين ثريٍّ وفقير، وبين صاحبِ جاهٍ ووَضيع، ثم تبيَّن لأصحابِ المَظالمِ بمرور الوقت، أن العَمى قد لا يعكس الحياد، بل يَشي بغياب البَصيرة.
***
عَدلُ السماءِ وعدالتِها؛ عناوين لأعمالٍ درامية مُتنوعة، ليست مَحليةً فقط، بل أنتجتها عديدُ البلدان. العنوان كاشفٌ بذاتِه عن نهايةٍ يطمَئِن إليها المُشاهدون، فالسماءُ ما تدخَّلت؛ أراحَت القلوب. على كُلِّ حال، العَدل أن يجد الناسُ جميعهم ما يسدُّ الرمَقَ وما يُغيث في المَرض، ويحفظ الكرامةَ ويصون الكبرياءَ. العَدلُ ألا يصادفون ليلَ نهار ما يجرح عِزَّة نفوسِهم، ويصدُّ أحلامَهم، ويُريق طموحَهم، ويذهب بالجهدِ والعرقِ هباءً.
***
العدلُ أيضًا أن ينال المُخطئ جزاءً بحجمِ ما اقترفَ، أما أن يتجاوز العقابُ حَجمَ الخطأ؛ فمِمَا لا تستقيم معه الأمور ولا تستوي، إذ للعَدلِ مَقامٌ بعيدٌ عن أهوالِ الانتقامِ وأدرانِ التشفِّي. العَدلُ في الحفاظِ على الأرواح ، وفي تطبيقِ شُروطٍ مُنصِفة خلال المُحاكمَات؛ لا تجري العادةُ على تجاهلِها أو اختزالِها. العَدلُ يتجلَّى في احترامِ القانون لا في التلاعُب به وإعادةِ كتابتِه.
***
يقولُ مَطَر مِن جَديد: لا أسـألُ عـنْ شَـكلِ السُّلطـةِ.. أسـألُ عـنْ عَـدْلِ السُّلطانْ.. هـاتِ العَــدْلَ.. وكُـنْ طَـر َزانْ. العَدلُ أساسُ المُلكِ وعِماده فإذا غابَ؛ غيَّب معه صلابةُ البناءِ، وأفسَد قدرتَه على تَحمُّل الشدائدِ، وأعَجَزَه عن البقاء.