للمؤرخ البريطانى الشهير توينبى تفسير لتاريخ الحضارات البشرية يتمثل فى وجود تحدٍ حضارى يحتاج لتصحيحه وإرجاع ألقته وحيويته إلى رد فعل حضارى.
فلقد حضرت خلال هذا الأسبوع لقاءين على شبكة التواصل الإلكترونى: أحدهما يتعلق بالوضع الحالى للبحث العلمى ومؤسساته فى الوطن العربى والثانى يتعلق بانعكاسات إشكالية بناء سد النهضة الإثيوبى على نهر النيل على الأمن المائى فى مصر والسودان. وخرجت بانطباع، يتكرر عندى بعد حضور كل مؤتمر فكرى سياسى أو اجتماعى – اقتصادى، مؤداه أن النخب العربية تظل تدور فى حلقة الاهتمام بأعراض المرض العربى الأساسى، وصفا وعلاجا جزئيا سطحيا وبكائيات لا تنتهى، دون أن تتوجه للمرض نفسه، تشخيصا علميا وعلاجا شاملا بأنجح الوسائل مهما كان ثمن ذلك العلاج والآلام المصاحبة له.
فالحديث عن زيادة ما يصرف من أموال على البحث العلمى أو إجراء إصلاح هنا أو هناك لن يؤدى إلى نتيجة إذا كانت البيئة الاجتماعية بكل مكوناتها طاردة لكل متطلبات البحث العلمى. ذلك أن الارتفاع الكبير فى نسبة الأمية فى الكثير من أقطار الوطن العربى، وفى أعداد الأطفال الذين لا يجدون مدارس ويعيشون فى مخيمات البؤس والجوع فى شتى الأقطار الكبيرة المنكوبة، والتراجع فى مستوى وكيفية التعليم الذى تشير إليه الكثير من التقارير المحلية والدولية، والدمار الأمنى والاقتصادى والاجتماعى الذى طال جزءا هائلا من الوطن العربى وأوصله إلى حافة الفقر المدقع، وتعاظم هجرة المتعلمين والأخصائيين والعلماء العرب إلى خارج الوطن العربى هربا من تلك الأوضاع أو مطاردة من قبل قوى الأمن.. كل ذلك يجعل من الحديث عن البحث العلمى ملهاة لا معنى لها، إذ من المستحيل القيام بالبحوث، وإيجاد القوى المبدعة المدربة للقيام بها والاستفادة من نتائج البحوث فى الصناعة والزراعة والثقافة وتنظيم المجتمع، فى بيئة مجتمعية بائسة كالتى تعيشها أغلب المجتمعات العربية.
والأمر نفسه ينطبق على موضوع سد النهضة. إنه هو الآخر عارض من أعراض مرض خطير، تماما كالعجز أمام حصار وتجويع الشعب العربى السورى وسرقة بتروله وغازه من قبل أمريكا وتركيا، وتماما كما تفعل تركيا بنهرى دجلة والفرات فى العراق وسوريا، وتماما كما تتدخل إيران فى الأوضاع العراقية المحلية، وتماما كما تستبيح الولايات المتحدة الأمريكية كل ساحات الحياة العربية، وتماما كما تفعل السلطات الصهيونية فى فلسطين نهبا للأرض والماء وتدميرا لكل مظاهر الحياة الفلسطينية المادية والمعنوية.. إلخ.. إلخ.. من قائمة تزداد يوميا فى قتامتها وأخطارها.
وإذن فالحديث عن أخطار سد النهضة والعجز العربى أمامه والدخول فى مناقشات قانونية وفذلكات سياسية دولية هو حديث عن أعراض مرض أساسى عربى يقف وراء كل تلك الأعراض.
ذلك المرض يتمثل فى غياب مفجع لإرادة عربية قومية مشتركة تقف فى وجه كل من يهدد أى جزء من الوطن العربى، وتتكاتف من أجل مساعدة أى قطر فى محنة، وتفعّل كل الأدوات والمؤسسات القومية المشتركة، وتبنى أنواع جديدة حديثة منها.
فى الوقت الحالى لا يمكن مع الأسف الاعتماد على غالبية أنظمة الحكم العربى من أجل بناء تلك الإرادة وتنظيمها وتفعيلها فى الحياة العربية. فالصراعات فيما بين بعضها هو أحد أسباب غياب تلك الإرادة.
ولا يبقى إلا المجتمع المدنى العربى كأمل أخير لبناء تلك الإرادة والضغط على أنظمة الحكم للدخول فى عملية بناء تلك الإرادة. لكن هناك حاجة لقوى شجاعة وكفؤة فى ذلك المجتمع العربى لوضع تصور فكرى واستراتيجى وتنظيمى لذلك المشروع وطرحه وقيادة الانتقال إليه. عند ذاك سننتقل من الدوران حول الأعراض إلى معالجة المرض العربى المسبب لكل تلك الأعراض. وذلك هو الخطوة الأولى فى رد الفعل الحضارى على التحدى الحضارى الذى نواجهه.