نشر موقع درج مقالا للكاتبة ملاك التائب تعرض فيه أزمة المياه فى ليبيا، والسمات التى اتصفت بها الإدارة المائية فى عهد القذافى، واستمرار سوء الإدارة فى العقد الأخير... نعرض منه ما يلى:
«لا يمكن أبدا تعريف أزمة المياه على أنها ببساطة نقص فى المياه»، يقول جولى تروتييه، ويتابع أن «الطبيعة لا تعانى أبدا من النقص فى المياه»، بل «حتى أكثر الصحارى جفافا تشكل نظاما بيئيا»، ولا يحدث هذا النقص «إلا عندما تقرر الجهات الفاعلة فى المجتمع ذلك». من هنا، لكى نفهم أزمة المياه فى ليبيا، علينا تتبع كيف تمكنت الجهات الفاعلة القوية البارزة من تحديد علاقة السياسة والاقتصاد بالمياه، ما دفعها إلى دعم «حلول» محددة دون غيرها.
يبدو جليا أن أزمة المياه التى تعانى منها ليبيا ليست أزمة ندرة بل هى أزمة حوكمة سياسية وسوء إدارة. وتتجلى المخاوف بشأن نقص المياه بصفة خاصة فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهى واحدة من أكثر المناطق معاناة من ندرة المياه فى العالم، إذ لا تحتوى إلا على 1.4 فى المائة فقط من المصادر المتجددة للمياه العذبة فى العالم.
تستخرج بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المياه الجوفية على نحو أكثر مما يُعاد تجدده، فى ظل غياب ما يلزم من أطر قانونية وأنظمة إدارة الموارد المائية، ويتوقع أن يؤدى تغير المناخ إلى خفض معدل تجدد موارد المياه الجوفية فيما يزداد الطلب على المياه. ويرى بعض الخبراء أن المياه قد نفدت من منطقة الشرق الأوسط بالفعل خلال سبعينيات القرن الماضى، وتعتمد المنطقة الآن إلى حد كبير على «المياه الافتراضية»، بمعنى تحويل المياه العذبة إلى سلعة فى مكان المنشأ وتبادلها تجاريا عبر الحدود الدولية فى شكل واردات غذائية.
إرث سياسات القذافى المائية
روج القذافى خطابا يعتبر ليبيا «دولة وفيرة الخيرات»، بيد أن هذا الخطاب دائما ما تعارض مع واقع الظروف المناخية؛ إذ إن ليبيا واحدة من أكثر دول العالم جفافا، إذ تُشكل الصحراء 90% من أراضيها، ويتركز سكانها بالضرورة فى الساحل الشمالى، ويُستخدم 85% من إجمالى استهلاك المياه فى الزراعة. غير أن ذلك الخطاب ساهم فى تحقيق بعض الأغراض السياسية، إذ أتاح استغلال الموارد المائية الليبية بأساليب تهدف إلى إبراز سلطة القذافى والحفاظ عليها.
يُجسد مشروع «النهر الصناعى العظيم» الذى أطلقه القذافى هذه الديناميات على أفضل وجه. كانت السياسة المائية منذ البداية مدفوعة بهندسة اجتماعية ومؤسسية سعت إلى تمكين قبائل معينة على حساب قبائل أخرى من أجل تأسيس معاقل موالية للنظام وسحق المعارضة. قبل أن يستولى القذافى على السلطة عام 1969، كانت قبيلة السنوسى فى الشرق هى القبيلة الحاكمة. قرر القذافى تغيير هيكل السلطة فى النظام القبلى من خلال تمكين الأعضاء الأقل قوة على الطبقة البرجوازية، وكل ذلك بهدف بناء قاعدة من المؤيدين المخلصين، وضمان الوصول إلى الموارد الطبيعية للبلاد من دون معارضة أو منافسة. وقد عمد إلى إضعاف مؤسسات الدولة، فقام بتركيز السلطة من خلال شبكات غير رسمية محيطة بعائلته الأوسع وقبيلته. فقد مثلت الرمزية القبلية عنصرا رئيسا فى نظام القذافى طيلة حكمه، وملأت الإشارات القبلية خطاباته. وإضافة إلى التمكين القبلى الانتقائى، صُمم مشروع «النهر الصناعى العظيم» بصورة أضفت عليه طابعا إقصائيا؛ إذ استبعدت بعض المناطق من المشروع، مثل منطقة جبل نفوسة، التى تقطنها الجماعة الأمازيغية، فتعرضت للحرمان من أى أنابيب توصيل بالمشروع، واضطر سكانها إلى الاعتماد لسنوات على خزانات المياه ومستودعات المياه الجوفية الأحفورية.
ومن السمات الأخرى التى اتصفت بها السياسة المائية فى ظل النظام السابق، إضعاف إدارة المياه وتشتيت السيطرة على البنية التحتية الرئيسة، عبر تعدُد المؤسسات. فهناك خمس مؤسسات رئيسة فى ليبيا مسئولة عن تطوير وإدارة ومراقبة الموارد والسياسات المائية، وهى: «الهيئة العامة للمياه» و«جهاز تنفيذ وإدارة مشروع النهر الصناعى» و«الشركة العامة لتحلية المياه»، و«الشركة العامة للمياه والصرف الصحى» و«الهيئة العامة للبيئة». تؤدى تلك المؤسسات المتعددة إلى مزيد من الفساد على المستوى الإدارى، وإلى العشوائية فى مجموعة القرارات التى تتخذ بشأن المياه تحديدا. فمع أن مرحلتين من مراحل مشروع «النهر الصناعى العظيم» الأربع جاهزتان اليوم للتشغيل، إلا أن المشروع لم يكتمل بعد.
استنزف مشروع «النهر الصناعى العظيم» موارد الدولة، من طريق تحويل الاهتمام والاستثمار فى السياسات المائية البديلة التى كان يمكن أن تصبح مفيدة، وخصوصا تحلية المياه. وعلى رغم إقامة بعض محطات تحلية المياه منذ الستينيات، فإن التوسع فى إنشائها فى الكثير من المدن الساحلية كان بطيئا بسبب الاعتماد المتزايد على مشروع «النهر الصناعى العظيم»، وتوجيه الاستثمارات نحو إتمامه، وذلك منذ بداية تشييده فى أوائل الثمانينيات. وعام 2007، تأسست «الشركة العامة لتحلية المياه» بوصفها شركة تابعة لوزارة الكهرباء والمياه والغاز، وأُسنِدت إليها مسئولية إدارة محطات تحلية المياه فى البلاد وتشغيلها وصيانتها وتجديدها.
اعتمدت السياسات المائية فى زمن النظام السابق على عائدات النفط. فقد اتبع القذافى، من أجل تحويل ليبيا إلى الجماهيرية المُتخيَلة، عملية تسلسلية. فى البداية قام بتأميم قطاع النفط، ثم عمل على زيادة مساحة الأراضى المزروعة والإنتاج الزراعى، وأخيرا اتجه إلى الموارد المائية لإقامة أكبر مشروع للرى، وهو «النهر الصناعى العظيم». كان التسلسل الذى سلكه النظام لتنفيذ هذه المشاريع يعنى أن تطوير قطاعَى الزراعة والمياه يعتمد بقوة على العوائد النفطية.
جانب أخير ومهم فى السياسات المائية فى ظل القذافى، هو اعتمادها على الشركات الأجنبية فى إنجاز المشاريع، إذ يُدفع لهذه الشركات مقابل خبراتها من ناحية القُدرات والعمال والتقنيات، من دون إشراك الليبيين وتدريبهم بشكل كافٍ.
السياسات المائية الليبية فى مرحلة ما بعد 2011
أدت التطورات الحاصلة منذ سقوط نظام القذافى إلى ظهور مشكلات المياه على الساحة السياسية الليبية. فقد برزت على السطح المظالم طويلة الأمد بشأن إمكانية الوصول إلى مصادر المياه. وجعل الصراع المُسلح أزمة المياه أكثر وضوحا، مع ظهور وكالات إنسانية دولية مثل «اليونيسيف» توفر مياه الشرب للمناطق المُتأثرة بالنزاع؛ والوصول إلى أماكن انقطاع التيار الكهربائى وما أعقب ذلك من انقطاع المياه لأسابيع طويلة؛ وصارت المياه هدفا للانقسام والتشرذم السياسى المستمر.
كما أدت حالة انعدام الاستقرار السياسى والاقتصادى إلى بروز مشكلات غير معهودة تتعلق بإدارة المياه. فعلى سبيل المثال، وعلى رغم جوانبه السلبية، كانت حقول آبار مشروع «النهر الصناعى العظيم» تخضع دوما لمراقبة المشرفين، وكانت محطات النظام المختلفة تحت حماية عسكرية على مدى الساعة فى جميع المناطق. أما الوضع اليوم فيتسم بالافتقار عموما إلى أدنى انتباه من مسئولى الدولة إضافة إلى تجاهل التحديات التى تواجه مشروع «النهر الصناعى العظيم»، وحالة عدم الاستقرار فى البنية المؤسسية لقطاع المياه، وهى الأمور التى تتفاقم مع انقطاع التيار الكهربائى والتقلبات الأمنية.
أدت خطورة الوضع فى كثير من أنحاء ليبيا إلى قيام الناس بالحفر بحثا عن المياه الجوفية فى منازلهم، من دون أى إشراف أو ترخيص قانونى. ومن دون الوصول إلى طرائق بديلة، كتحلية المياه أو معالجة مياه الصرف الصحى.
أولويات الإصلاح المائى فى ليبيا
خلال الاحتجاجات التى ضربت المدن الساحلية بسبب شح المياه، دعا كثر من الذين قاموا بالتعبئة والحشد سلطاتِ مشروع «النهر الصناعى العظيم» إلى القيام بتعويض النقص والعجز المستمر من خلال الاستثمار فى تنفيذ سياسات تحلية المياه، وإلى عكس مسار انعدام الاهتمام بهذه السياسات الذى ظهر مع بروز مشروع «النهر الصناعى العظيم». فلا بد من تمكين هيئة تحلية المياه التى تأسست عام 2007، وتقديم الدعم اللازم لها وصيانة المرافق القائمة بالفعل فى مختلف مناطق ليبيا، إضافة إلى دراسة إمكانية تمديد نطاق المرافق لتشمل مناطق أخرى بعيدة عن الساحل. بإمكان القطاع الخاص أن يلعب دورا حيويا فى التعاون من أجل مراجعة مرافق تحلية المياه وتقييمها ومعالجتها. ويُعَد مثل هذا الجهد عاجلا وملحا خصوصا فى المناطق التى ظلت خارج شبكة مشروع «النهر الصناعى العظيم».
ومن الأمور الملحة أيضا الاستثمار فى رفع وعى المواطنين حول استهلاك المياه. فقد كان هذا الاستهلاك مجانيا فى ليبيا ما يقلل من الحافز لضبط الاستهلاك وترشيده. وبما أنه من المتوقع أن يرتفع الطلب على المياه العذبة، بحلول عام 2025، إلى 56 فى المائة أعلى مما هو متاح اليوم، تدور الآن مناقشات حول إمكان وضع تسعيرة للمياه من أجل رفع وعى الشعب حول أهمية الحفاظ على المياه كجزء أساسى من مساهمته الاجتماعية.
ويطل شبح الخصخصة لدى الحديث عن تسعير المياه ونقل خدمات التحكم فيها وإدارة الموارد المائية إلى شركات خاصة. قد يكون لهذا أثر فعال فى الوضع الحالى، لأنه ربما يُنشط دور الشركات الخاصة المحلية التى ستقدم حينها خدمات كثيرة لتعويض فشل الدولة. لكن نجاح مثل هذه النقلة، يستلزم تعاونا وثيقا بين القطاعَين العام والخاص، نظرا إلى أن القطاع العام لم يعد بإمكانه تقديم خدمات إمداد المياه والصرف الصحى المطلوبة. وأخيرا، فإن توحيد المؤسسات التى تدير الموارد المائية أمرٌ أساسى نحو تقديم رؤية واستراتيجية متماسكة لإدارة شبكات المياه فى ليبيا.
النص الأصلى هنا