العلاج بالنزيف - بول كروجمان - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 10:46 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العلاج بالنزيف

نشر فى : الأربعاء 28 سبتمبر 2011 - 10:50 ص | آخر تحديث : الأربعاء 28 سبتمبر 2011 - 10:50 ص

كان الأطباء يعتقدون أنهم بحجامة المريض يطردون «الأرواح» الشريرة التى كانوا يظنون أنها تسبب الأمراض. وفى الحقيقة، كان كل ما يخرجونه من دم بطبيعة الحال يجعل المريض أكثر ضعفا، ويعرضه لاحتمال الوفاة.

 

لحسن الحظ، لم يعد الاطباء يعتقدون أن النزيف يشفى المرضى. إلا أن كثيرا من صانعى السياسات الاقتصادية مازالوا يعتقدون هذا لسوء الحظ. والنزيف الاقتصادى لا يسبب آلاما مبرحة فحسب؛ بل يبدأ فى تقويض آفاق نمونا على المدى الطويل.

 

خلفية مختصرة: بالنسبة للعام ونصف العام الماضيين، أصبحت دعوات التقشف المالى مهيمنة على الخطاب الخاص بالسياسات فى كل من أوروبا والولايات المتحدة. وقيل لنا إن الدول تستطيع بخفض الإنفاق وتقليل العجز استعادة الثقة والتوجه نحو الانتعاش الاقتصادى.

 

●●●

 

وطُبِّق التقشف بالفعل. ففى أوروبا، فرضت الدول المتعثرة، كاليونان وإيرلندا، تخفيضات قاسية، إلى حد أن برامج التقشف التى فرضتها الدول الأقوى كانت أكثر اعتدالا منها. وفى أمريكا، تلاشت حوافز بنك الاحتياط الفيدرالى المتواضعة التى صدرت عام 2009، حين خفضت الدولة والحكومات المحلية ميزانياتها. وهكذا فإنه فى النهاية لم تختلف حركتنا فى اتجاه التقشف عما حدث فى أوروبا فى واقع الأمر.

 

ورغم ذلك، فالمدهش أن الثقة لم تزدد. وبطريقة أو بأخرى، تبدو الشركات والمستهلكون أكثر قلقا بسبب نقص الزبائن وفرص العمل، على التوالى، بدلا من أن تطمئنهم استقامة حكوماتهم المالية. ويبدو النمو غير مستجيب، بينما ظلت البطالة مرتفعة بصورة تنذر بالخطر على جانبى الأطلسى على السواء.

 

لكن يتساءل مبررو النتائج السيئة حتى هذه اللحظة: ألا يجب علينا التركيز على المتاعب فى المدى الطويل أكثر من المدى القصير؟ كلا فى الحقيقة؛ فالاقتصاد يحتاج إلى مساعدة حقيقية الآن، وليس رشاوى وهمية بعد عقد من الزمن. وفى كل الحالات، فمتاعب الاقتصاد فى «المدى القصير» ــ التى استمرت أربع سنوات حتى الآن، ومازال الوضع يزداد سوءا بسبب التركيز على التقشف ــ بدأت الشواهد تبين أنها صالحة كحجة على آفاق المدى الطويل أيضا.

 

ولننظر على نحو خاص قاعدة التصنيع الأمريكية. ففى الأوقات العادية، كانت القدرة التصنيعية تزداد كل عام بنسبة تتراوح ما بين 2% و3%. لكن فى مواجهة الاقتصاد الضعيف باستمرار، تتناقص الصناعة ولا تتزايد. وهكذا، ووفقا لتقدير بنك الاحتياط الفيدرالى، أصبحت القدرة التصنيعية أقل بنسبة 5% مما كانت عليه فى ديسمبر 2007.

 

وما يعنيه هذا أنه إذا حدث انتعاش حقيقى، فسوف يصطدم الاقتصاد بقيود القدرة الإنتاجية واختناقات الانتاج على نحو أسرع مما ينبغى. ذلك أن الضعف الاقتصادى، الناتج جزئيا عن تخفيض الميزانية، يضر بالمستقبل مثلما يضر بالحاضر.

 

علاوة على ذلك، ربما يكون تدنى القدرة التصنيعية مجرد بداية لتغيرات أخرى سيئة. فقد يحدث خفض مشابه فى القدرة الإنتاجية فى قطاع الخدمات ــ والواقع أنه ربما يكون قد بدأ بالفعل. ومع ارتفاع معدل البطالة لفترة طويلة منذ الكساد العظيم، هناك احتمال حقيقى أن يتحول عاطلون كثيرون إلى اشخاص غير قابلين للتوظيف. ويقع العبء الأكبر لهذه التخفيضات أيضا على الإنفاق العام فى التعليم. وبشكل أو بآخر، لا يمكن أن يبدو تسريح مئات الآلاف من المعلمين وسيلة جيدة لتحقيق مكاسب فى المستقبل.

 

●●●

 

الواقع أنه عندما نجمع الشواهد المتزايدة على أن التقشف الاقتصادى يحد من توقعات مستقبلنا، مع أسعار الفائدة شديدة الانخفاض على الدين الحكومى الأمريكى، يصعب تجنب هذا الاستنتاج المذهل، وهو أنه قد يكون لتقشف الميزانية نتائج عكسية، حتى من خلال وجهة نظر مالية بحتة، لأن النمو المنخفض فى المستقبل يعنى الحصول على ضرائب أقل.

 

فماذا يجب علينا أن نفعل؟ الإجابة هى أنه لابد لنا من دفعة كبيرة لتحريك الاقتصاد، ليس فى وقت ما فى المستقبل، بل الآن. ذلك أننا بحاجة حاليا إلى المزيد من الإنفاق الحكومى، وليس الأقل، مدعوما بسياسات توسعية جريئة لبنك الاحتياط الفيدرالى ونظرائه فى الخارج. وليس هذا رأى باحثى الاقتصاد النظريين فحسب، بل هناك رؤساء شركات، مثل إيريك شميت من جوجل، يقولون الشىء نفسه. وسوق السندات، بشرائها الدين الأمريكى بهذه الأسعار المنخفضة للفائدة، تلتمس فى الواقع سياسة أكثر توسعية. وللإنصاف، يبدو أن بعض المؤثرين فى السياسة أدركوا هذا. وتعد خطة الرئيس أوباما لخلق فرص عمل خطوة فى الاتجاه الصحيح، بينما يدعو بعض أعضاء مجلس الإدارة فى بنك الاحتياط الفيدرالى وبنك إنجلترا ــ وليس البنك المركزى الأوروبى للأسف ــ إلى سياسات ذات توجه تنموى أكثر من ذلك بكثير.

 

●●●

 

ورغم هذا، فإن ما نحتاج إليه فعلا هو إقناع عدد كبير من الأشخاص الذين لديهم سلطة أو نفوذ سياسى بأنهم أمضوا العام ونصف العام الماضيين فى الاتجاه الخاطئ، وأنهم فى حاجة إلى أن يستديروا عائدين. لن يكون الأمر سهلا، لكن حتى تحدث هذه العودة، فالنزيف ــ الذى يضعف اقتصادنا الآن، ويقوض مستقبله فى الوقت نفسه ــ سوف يستمر.

بول كروجمان حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد
التعليقات