نشر موقع السفير العربى مقالا للكاتب «رجا الخالدى».. نعرض منه ما يلى:
يعرض الكاتب فشل بروتوكول باريس فى تحقيق أهدافه «المعلنة» (والمأمولة فلسطينيا) فى تغيير بنيوى فى الاقتصاد الفلسطينى وتبعيته الخارجية، وفشل الرهان على تعهدات الحكومات الإسرائيلية، بينما نجح تطبيق البروتوكول فعلا فى تقويض الطموحات الفلسطينية بالاستقلال، وفى إبقاء ولاية السلطة الفلسطينية ووظائفها إدارية وغير سيادية.
عرض المقال خمس محاور حيوية بالنسبة للاقتصاد الفلسطينى تتحكم فيهم السلطة الإسرائيلية.. نعرض منها ما يلى.
التسرب المالى نحو الخزينة الإسرائيلية
من أكثر الترتيبات المالية المعقدة حساسية وحيوية والتى انطوى عليه العمل ببروتوكول باريس هى آلية احتساب وتحويل المستحقات الضريبية الفلسطينية (المقاصة) التى تجبيها إسرائيل على الواردات الفلسطينية منها وعلى الواردات الدولية المباشرة إلى فلسطين. وبالإضافة إلى ما تتيحه هذه العملية من فرص لإسرائيل للقرصنة المالية حينما تشاء، فإن مجمل أوجه العلاقة التجارية الفلسطينية ــ الإسرائيلية فى سياق أوسلو/ باريس تتضمن ترتيبات تُلحق خسائر كبيرة بالخزينة الفلسطينية.
منذ عام 2014، عملت أكثر من جهة دولية على استكشاف وتوثيق أشكال هذا «التسرب المالى» وتقدير حجمه السنوى والمتراكم. فى آخر دراسة شاملة لجميع أشكال الخسائر المالية التى تتكبدها الخزينة الفلسطينية تصدر عن الـ«أونكتاد» ــ قُدِرت قيمة هذه الخسارة السنوية (فى 2017) بما يزيد على مليار دولار، أو ما يعادل نحو ثلث الإيرادات الحكومية الفعلية أو 7 فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى. مثل هذا التقدير يشير إلى حجم العبء المالى للاحتلال.
الاعتماد على الواردات السلعية من الأسواق الإسرائيلية أو بواسطة موانئها
ربما تكون أشد نقطة اختناق فى العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل، هى تحكم الأخيرة بجميع الحدود والموانئ والمعابر التجارية المؤدية من وإلى الأراضى المحتلة. طبعا هذا يشكل عائق أمام وصول الصادرات الفلسطينية السلعية إلى الأسواق الإقليمية والعالمية، ويزيد من تكلفة النقل والتخزين والتخليص التجارى فى الاتجاهين (الصادرات والواردات). هذا المحور الرئيسى لسيطرة الاحتلال على الاقتصاد يوثر حتما على سهولة تدفق نحو 1.2 مليار دولار من الصادرات الفلسطينية (التى تقصد نحو 82 فى المائة منها إسرائيل) و5.3 مليار دولار من الواردات (نحو 55 فى المائة منها مصدرها إسرائيل والبقية من أوروبا وآسيا والدول العربية، وهناك ربما أكثر من 40 فى المائة من تلك الحصة الأخيرة تصنف كواردات مباشرة).
هنا أيضا يعتبر البروتوكول الإطار الناظم لإدامة التبعية التجارية لإسرائيل، فسلطات إسرائيل الجمركية والضريبية والأمنية تسيطر على 100 فى المائة من التدفقات التجارية الفلسطينية الفعلية. ليس من السهل تخفيف هذه القبضة طالما تحرم السلطة الفلسطينية من التواجد عند المعابر التجارية، وطالما أن المصدرين والمستوردين الفلسطينيين محرومون من الاستفادة من التزامات إسرائيل الدولية فى إطار اتفاقية تسهيل التجارة العالمية (2013)، الخ... مع أنه تحقق بعض التقدم خلال السنوات الأخيرة فى استبدال الواردات الإسرائيلية بالدولية، أو بإحلال الواردات عامة من خلال الاستثمار فى بناء صناعات تحويلية خفيفة لبعض المنتجات الاستهلاكية، فالتحكم الاحتلالى بالمعابر والحدود يحول دون إمكانية إحراز التحول الجذرى المطلوب فى بنية واتجاهات التجارة الخارجية الفلسطينية.
الاحتكار الإسرائيلى فى توريد الطاقة لفلسطين، وفى التصرف بالموارد الطبيعية
تهيمن القوة القائمة بالاحتلال منذ 1967 على سوق الطاقة الفلسطينية، ولم تغير اتفاقيات أوسلو ذلك الوضع بل كرسته. منذ 1994 منحت امتيازات لشركات إسرائيلية لتوريد البترول والغاز للسلطة الفلسطينية، التى بدورها توزعها بواسطة شركات القطاع الخاص. يستورد الاقتصاد الفلسطينى عبر مستوردين إسرائيليين ما يعادل 800 مليون دولار سنويا من مشتقات النفط، ما يساوى نحو 15 فى المائة من إجمالى فاتورة الاستيراد السنوى. على الرغم من أن البروتوكول يتيح للسلطة الفلسطينية استيراد الطاقة من الأردن إذا رغبت، فإنه لم تتم مناقشة هذا الخيار جديا سوى منذ تولى رئيس الوزراء الجديد محمد اشتية مقاليد إدارة السلطة. كذلك لا تتمتع السلطة الفلسطينية بأية قدرة لتوليد الكهرباء (ما عدا جزئيا فى غزة من خلال محطة التوليد الفلسطينية الوحيدة)، وتعتمد كليا على شركة الكهرباء الإسرائيلية لاستيراد جميع احتياجاتها 2017. لم تستثمر السلطة فى بناء قدرتها التوليدية قبل 2018، حين باشر صندوق الاستثمار الفلسطينى (الصندوق السيادى الفعلى) فى بناء محطة توليد كهرباء مشغلة بالغاز فى جنين ــ شمال الضفة الغربية، ومنطقة توليد طاقة شمسية قرب أريحا.
من جهة أخرى، فإن السلطة الفلسطينية محرومة من الاستفادة الحرة من مواردها الطبيعية والمعدنية، بفضل بنود اتفاقيات أوسلو التى تركت 60 فى المائة من الضفة الغربية (منطقة «ج») خاضعة للحكم العسكرى الإسرائيلى المباشر، وهى بالضبط المناطق التى تحتوى على أهم وأكثر الموارد الطبيعية: المياه الجوفية، حقول الغاز فى بحر غزة وفى وسط الضفة الغربية، الحجر والرخام فى مختلف مناطق الضفة والمعادن المميزة للبحر الميت.
يتجلى أيضا فى قطاع الطاقة والموارد الطبيعية مدى وعمق الترابط العضوى بين الاقتصادين، حيث هناك مصالح مالية تستفيد منها بعض الأطراف فى كلا الجهتين من استمرار الوضع القائم، وتعطيل أى تحول جذرى فى المعادلة. كما تظهر حساسية الترابط بين مثل هذه القناة للتبعية والأزمة المالية الحكومية، حيث تقوم إسرائيل، على سبيل المثال، بالاقتطاع من أموال المقاصة قيمة الديون المتراكمة لديها لحساب شركات توزيع الطاقة الفلسطينية. لا تستطيع تلك الشركات دفع كامل فاتورة مشترياتها من إسرائيل بسبب مشاكل عديدة.
الطريق إلى التنمية: انفصال، انفكاك، فك ارتهان
يقول الكاتب بعض استعراضه للوضع المالى والاقتصادى فى فلسطين أن طبيعة الورطة إلى يمثلها بروتوكول باريس لا تتضح فقط فى تأثيرها على معيشة الشعب الفلسطينى ولكن أيضا ما تمثله من تحدى فى محاولة تغيير «مسار التبعية الاقتصادية الضار» الذى بدأ مع احتلال 1967، وجسدته اتفاقيات أوسلو دون مخرج منه حتى اليوم.
هناك بعض الآراء تدعى حتمية بقاء العلاقة بين الاقتصادين لأسباب أمنية/سياسية، أو حتى بمزاعم وجود فوائد اقتصادية لفلسطين. ومن هذا المنطلق، هناك أصوات كانت، وما زالت تنادى من باب «الواقعية» بإمكانية إصلاح بروتوكول باريس أو عدم التخلى عنه، لأن تفكيكه سيكلف أكثر بكثير من أية فوائد محتملة لأى بديل عنه.
لا يسمح البروتوكول بانتهاج سياسة حماية للصناعات الوطنية الوليدة، واستحواذها على حصة سوقية محلية أو الولوج إلى الأسواق الدولية أو حتى الإقليمية القريبة.
لكن إذا كان هناك فعلا إقرارٌ بأن هذه الترتيبات لا تحرم فلسطين من انتهاج مسارها التنموى المناسب فحسب، بل تعتبر فى جوهرها، وخاصة فى ظل موازين قوى إقليمية وعالمية معادية للحقوق الفلسطينية، نقيضة لجميع مقتضيات التحرر والاستقلال والسيادة، فإنه لا يمكن تجاهل تلك الحقيقة إلى ما لا نهاية. وإذا كانت المواقف والتوجهات السياسية المالية الفلسطينية الأخيرة ستأخذ على محمل الجد، فإن ذلك ينطوى على تحقيق «الاستقلال» فى الطاقة والتصنيع والتجارة والعمالة والمالية والنقد، حتى ولو تدريجيا، وتبنى أجندة عمل طموح وصعب المنال. سيتطلب مثل ذلك النهج الابتعاد عن جميع «العادات السيئة» الشائعة: فى الاستهلاك الظاهر، والاستثمار غير المنتج، والتساوق مع مصالح تجارية إسرائيلية، فى عدم تفضيل المنتج الأجنبى على الوطنى، فى ضعف الالتزام الضريبى والمدنى، وفى توسع النفقات الحكومية غير الضرورية فى الحالة الفلسطينية، وفى وضع الحدود لتوسع نظام الحماية الاجتماعية.. وغيرها من التوجهات التى تمركزت لدى الحاكم والمواطن والرأسمالى خلال العقدين الأخيرين. قبل ذلك تحتاج المرحلة القادمة إلى قيادة واعية وملتزمة ومستعدة لمواجهة الأخطار المحدقة جراء تكرار المواجهة مع سياسات إسرائيل الاقتصادية المعادية، والانتقال إلى اعتماد نموذج اقتصادى مختلف وسياسات استثمارية جديدة (ومكلفة) وتناغم فى الأدوار بين القطاعين العام والخاص.
فى كل الأحوال ليست محاور التبعية الرئيسية التى تناولناها أعلاه قابلة للتغيير الفورى أو السريع مهما اتضحت الرؤية وتكاتفت الجهود. لا يمكن وقف النزيف المالى الضريبى دون وضع أنظمة وترتيبات جديدة للمحاسبة وللمقاصة، ودون إعادة هيكلة بنية القطاع التجارى الخارجى. هذا بدوره يتطلب سياسات صناعية جديدة وترتيبات لوجستية وممرات تجارية وغيرها من الإصلاحات. كما لا يمكن تقليل الاعتماد على العمل فى إسرائيل دون الاستثمار فى بناء اقتصاد منتج يوظف مقدار أكبر من القوة العاملة. وحتى تحقيق إنشاء قدرة ذاتية لتوليد الطاقة وتنويع مصادر استيرادها، ستبقى إسرائيل طرفا محتكرا وانتهازيا فى هذا الملف. وفى مرحلة لاحقة ربما، لا بد من الاستعداد المالى والمصرفى والتجارى لنظام نقدى فلسطينى سيادى، إذا كانت ستتحقق «الجدوى الاقتصادية» للدولة الفلسطينية. بالتالى، يبدو هدف الانفصال غير ممكن وغير مجد فى المرحلة الراهنة، وربما غير منطقى اقتصاديا على المدى البعيد.
من جهة ثانية فإن الانفكاك من بعض قيود البروتوكول وأوسلو، على بعض محاور التبعية، يبدو كهدف ضرورى وقابل للتنفيذ دون إلحاق الضرر بالاقتصاد جراء التحول الهيكلى الذى لا بد منه فى بعض جوانبه: وقف جزء من التسرب المالى، توفير بدائل لتشجيع الإحجام عن العمل فى المستوطنات مثلا، تسريع الخطوات باتجاه الاستقلال فى الطاقة، استثمارات مكثفة فى البنية الإنتاجية الصناعية والزراعية والتحتية، إلخ. هنا يصبح من المفيد توظيف مفهوم فك الارتهان لتوجيه برنامج الانفكاك عن التبعية الاحتلالية (دون استهداف الانفصال عن الاقتصاد الإسرائيلي). أى، أن يتم صياغة برنامج للانفكاك الاقتصادى، وللصمود إلى أن يتحقق، بحسب أولويات وإمكانيات فك الارتهان فى هذا القطاع أو ذاك، تدريجيا، مع احتساب الكلفة والفائدة فى كل مرحلة. بحيث يصبح الخط الذى رُسِم على الرمال من قبل الرئيس الفلسطينى بمثابة برنامج للانفكاك تحت شعار: لا ابتزاز، لا قرصنة ولا تبعية.
النص الأصلي:من هنا