على السطر ذاته - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:55 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

على السطر ذاته

نشر فى : السبت 29 أكتوبر 2011 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 29 أكتوبر 2011 - 8:00 ص

حين دهس أستاذ الجامعة الطلبة بسيارته، لم يكن يحاول فقط الهرب من مضايقاتهم أو من حصارهم، لكنه كان أيضا، وربما دون أن يدرى، يعطى درسا عمليا رائعا يشرح فيه نظرية (التلقين المجتمعى)، إحدى النظريات الشهيرة التى يمارس البشر من خلالها فعل التعلم عن طريق الملاحظة والمحاكاة.

 

فى مرحلة الطفولة يبدأ الطفل فى التعلم عن طريق متابعة ما يفعله الآخرون، ولأنه لا يميز الخطأ من الصواب فإنه يقلد ويحاكى كل شىء يصادفه، يقلد الطفل أباه فى حركات الصلاة دون أن يفهم معناها، وقد يضرب لعبته كما تفعل معه أمه، وفى كثير من الأحوال يتدخل الكبار لتعديل ما يمارسه من سلوك، فإذا غاب التدخل ظهرت المخاطر، هناك أطفال يحاكون سبايدرمان وبات مان وغيرها من الشخصيات المشهورة التى تقوم بأفعال لا منطقية وخارقة للعادة، حيث إن عقل الطفل لا يرسم حدودا بين ما هو قابل للتنفيذ وما هو مستحيل. يحذر الخبراء من تلك الشخصيات التى تخلب اللب، لأن الأطفال قد يقفزون من الشرفات متصورين أنهم سوف يحلقون فى السماء، وقد يشعلون النيران واثقين من أنها لن تحرقهم أو يضربون بعضهم بالسكاكين متصورين أنها ستنثنى دون أن تسبب أذى، وقد أثبتت التجارب العلمية أن الأطفال الذين يتابعون الرسوم المتحركة بما تحويه من أفعال عنيفة، يصبحون بدورهم أكثر عدوانية أثناء اللعب مع أقرانهم، على عكس هؤلاء الذين لم يتعرضوا لمشاهد عنف سابقة سواء حقيقية أو تمثيلية.

 

 الميل إلى التعلم عن طريق المحاكاة قوى وسريع فى الطفولة، حيث يكون الفرد بمثابة صفحة بيضاء: لا يحمل خبرات ترشده ولا تجارب يسير على هديها ولا مقاييس ومعايير واضحة، أما فى مرحلة المراهقة ومع بداية الإحساس بالاختلاف فإن الفرد يختار نماذج بعينها تتماشى مع نزعته المتمردة الجديدة ليحاكيها: غالبا ما تنتقى الفتيات نجمات الغناء والتمثيل وينتقى الفتيان إلى جانب الفنانين نجوم الكرة والرياضة. مع التقدم فى العمر واتساع المدارك واكتساب المهارات والدروس الحياتية، يُفتَرَض أن تخضع المحاكاة إلى بعض الضوابط لا أن تتم تلقائيا، فيسبقها تفكير وتقييم ثم انتقاء واختبار.

من السلوكيات ما ندرك صلاحيته للتطبيق فنقتبسه، ومنها ما نستبقيه فى ذاكرتنا لكننا نحذفه تماما من قاموسنا العملى حتى وإن أعجبنا به، إما لصعوبة التنفيذ أو لانتهاكه معاييرنا الأخلاقية أو عدم توافقه مع توجهاتنا واعتقاداتنا.

فى الحالات التى نتعرض فيها إلى التهديد أو الشعور بالعجز عن التصرف، قد تسقط منا المعايير السابقة جميعها سواء كانت أخلاقية أو عملية، وقد نستحضر من الذاكرة ما نحيناه جانبا من قبل ونستخدمه دون محاذير، خصوصا إذا بدا لنا أنه يمثل الحل السريع الحاسم.

 

●●●

 

دهس مدرعات المجلس العسكرى المتظاهرين فى الشوارع وقتلهم، ذاك الفعل الذى أعقبه دهس سيارة أستاذ الجامعة الطلاب وإصابتهم، إنما يمثل نموذجا رفيعا على عملية التلقين المجتمعى المفرغة من أى ضوابط. فى المرحلة الأولى تم اختزان مشهد المدرعات فى الذاكرة بكل ما حمله من لا معقولية وبشاعة، وفى المرحلة الثانية التى اختبرها أستاذ الجامعة وشعر فيها بأول بادرة خطر مشابهة، استخرج المشهد وأعاد أداءه ربما دون أى تفكير.

ربما أساء الطلبة التصرف، ربما تجاوزوا حدود الأدب واللياقة، وتهوروا لفظا أو حتى فعلا. لكن هل تكفى تلك المبررات لدهسهم مترجلين بسيارة تخص مسئول يتفاوضون معه؟. لا أظن، كما لا أظن أيضا أن التظاهر والاحتجاج فى كل الأحوال، وحتى وإن خرج عن الخطوط المرسومة له قد يمثل سببا كافيا لدهس أو قتل أى إنسان، إنما هو النموذج الفج الذى كسر فى أذهاننا الحدود بين ما يمكن قبوله وما يستحيل حتى التفكير فيه.

ينتظر الطفل دائما نتائج سلوكه وحين يدرك ألا حساب ولا عقاب، وأن التبعات بسيطة يمكن تحملها، فإنه لا يجد أى غضاضة فى الاستمرار، حتى مع معرفته بأن سلوكه مذموم، ويؤدى هذا تدريجيا إلى تقوية السلوك وتوطيده وتدعيمه ثم التمادى فيه، خصوصا إذا كان مبتدعه يمثل قدوة أو كان محل إعجاب وانبهار الآخرين.

 

 لقد مرت أحداث دهس متظاهرى ماسبيرو دون رد فعل رسمى واضح الملامح، وأغلب الظن أن المسئول الحقيقى لن يطوله عقاب سريع رادع تماما كما لم يطل فى الحقبة الماضية الكثيرين، وربما سوف يمر دهس الطلاب فى الجامعة بالطريقة ذاتها، وقد تتبعه عشرات الحوادث المماثلة، فالفاعل فى كل الأحوال قد يتوحد بالسلطة التى لا تخضع للتقويم، ويرى نفسه امتدادا لها، يحاكيها ويملك مثلها صكوك الإباحة والغفران.

 

●●●

 

طرح أخير: يبتكر الطفل ويطور فى السلوك الذى يقلده متكئا على خياله الخصب، أما نحن الكبار فإننا نثبت يوما بعد يوم أننا نسير على نفس الخطوات بحذافيرها دون أى إبداع أو ابتكار اللهم إلا المزايدة والمغالاة فى التقليد. نحن الكبار صرنا نصدأ سريعا ونفقد حماستنا للتجدد سريعا، ونعجز عن التمسك بالقدرة على خلق نموذجنا الخاص. لا أدرى كيف يحدث هذا اليوم، رغم أننا قد فعلنا من قبل وتركنا بصمتنا الأصلية المتفردة فى ميدان التحرير.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات