قدر لى أن أزور أكثر من أكاديمية علمية متقدمة فى فترة زمنية قصيرة، وهو ما أسهم فى تكثيف النظرة إلى ما يحدث فى المجتمع العلمى الحديث. ورغم أن هذه ليست هى المرة الأولى التى أمكث فيها وقتا طال أو قصر للدراسة أو المشاركة فى عمل أكاديمى، إلا أن هذه المرة، خاصة فى ضوء ما يشهده مجتمعنا من تقلبات، كانت باعثا على إعادة التفكير فى أسباب التقدم العلمى الذى أصابه الآخرون، والتراجع العلمى الذى يرزح فيه مجتمعنا. وكم كان ملفتا بالنسبة لى أن أشاهد مقاطع فيديوهات لرقص أو خطوبة أو إعلان حب بين طلاب الجامعات التى ظهرت أخيرا فى الوقت الذى كنت فيه فى قلب جامعة عريقة مثل «اكسفورد»، أرى الحياة الأكاديمية على نحو آخر تماما.
أولا: النظرة العلمية البعيدة، المتأمل لعناوين الأبحاث، والكتب، وغيرها يرى كيف أن البحث يسبق تطور المجتمع، ويستشرف التحديات التى تقابله، ويرصد الفرص التى يمكن أن يحملها له المستقبل. اهتمامات بحثية تبدو بالنسبة لنا بعيدة أو غير ذات جدوى، لكنها تعبر عن قراءة واعية لتحديات وفرص مستقبل قادم.
ثانيا: رأس المال العلمى، هناك اهتمام بالمكتبة، والكتاب، والتوثيق، والاستدعاء السريع للمعلومات، والقدرة على الإفادة منه. هنا يأتى دور المكتبة المتقدمة، التى تؤسس على أسس علمية حديثة، تمكن الباحث من أن يجد ضالته.
ثالثا: التراكم العلمى، هناك دائما مراجعة دقيقة للجهد العلمى الذى بذله آخرون فى نفس مجال الاهتمام، قبل أن يشرع الشخص فى البدء فى البحث، والتراكم عليه. من هنا، نتوقع أن نجد جديدا دائما، طالما أن الباحث يعرف من أين انتهى الآخرون.
رابعا: الحرية الاكاديمية، بمعنى أن الباحث لا رقيب عليه سوى ضميره، وهناك دائما بحث، ودأب فى المعرفة، ولا توجد حدود تصده أو أبواب توصد أمامه، أو محرمات يقف عندها مكتوف الأيدى، المهم أن يلتزم بالروح والتقاليد والآداب العلمية.
خامسا: التطبيق العلمى، ليس العلم منفصلا عن الواقع، بل هو المدخل الرئيسى لتطوير الواقع، لا يوجد علم مجرد، أو بحث ليس له مردود فى الواقع، أو نظرية جامدة، أو اجترار لمعارف ليس له مغذى أو مردود علمى، ولكن هناك فى الأساس معرفة تطور الواقع، وواقع يحترم قيمة العلم.
سادسا: هناك المبنى، المكان، المهيئ، المكتبة المجهزة، قاعات البحث والدرس، المجتمع الأكاديمى الذى تبرز فيه حريات الرأى والتعبير، والحوار النقدى، والتفكير العلمى، والاهتمام بالتطور العلمى، وغيره.
هذه بعض من ملامح المجتمع الأكاديمى الذى يقدم بحثا علميا يفيد المجتمع، ويبنى أواصره، ويقدم دائما قيادات فكرية للمجتمع. المسألة إذن ليست مبنى أو مقررا أو لوائح أو ضبطا وربطا بقدر ما هى روح أكاديمية مغايرة.