كاتب هذه السطور كان له الحظ أنه درس في عدة جامعات في مصر وفي أمريكا كما درَّس (بفتح الراء وتشديدها) في عدة جامعات في مصر وأمريكا، فقد حصلت على البكالوريوس والماجستير من هندسة القاهرة والدكتوراة من جامعة ميريلاند الأمريكية و درَّست في جامعة القاهرة كمعيد وفي جامعة نيويورك كأستاذ كما قمت بزيارة عدة جامعات أخرى أمريكية وأوروبية لعمل أبحاث مشتركة أو لإلقاء محاضرات وفي أثناء ذلك كله كنت ألاحظ فروق في الحياة الجامعية في هذه الجامعات، وأقصد بالحياة الجامعية حياة الطلاب داخل الجامعة داخل وخارج قاعات المحاضرات وطريقة تفاعلهم مع الأساتذة بالإضافة إلى حياة الأساتذة أنفسهم، الآن نحاول أن نربط بين تأثير الحياة الجامعية على التعليم والبحث العلمي. وهل لها تأثير فعلاً أم لا؟ طبعاً كل ما جاء في هذا المقال هو رأي شخصي بحت يحتمل الصواب أو الخطأ ويخضع للمناقشة التي قد تصل بنا إلى معرفة ماهية البيئة الجامعية التي تتفق مع شخصيتنا المصرية وفي نفس الوقت تشجع على التعليم والبحث العلمي وقد قصدت أن أقول شخصيتنا المصرية لأنه في أغلب الأحيان لا يجب أن ننقل تجربة الآخرين حرفياً دون أن نعدلها لتناسبنا. فلا نستطيع أن نقول أن الجامعات في أمريكا تفعل كذا وهي جامعات متقدمة إذا فلنفعل نحن أيضاً كذا وسنتقدم. هذا النقل "العمياني" يفشل في أغلب الأحيان ليس فيما يتعلق بالتعليم والبحث العلمي فقط ولكن في أية محاولة لنقل أية تجربة.. فلنبدأ.
أول شئ نلاحظه أن أغلب الطلاب في أمريكا يعملون أثناء الدراسة ولاأقصد العمل أثناء الصيف ولكن أثناء العام الدراسي، فقد تجد طالب يعمل في مطعم ثم يذهب لحضور بعض المحاضرات ثم يعود لعمله، هذا يكون غالباً في مرحلة البكالوريوس لأن أغلب الطلبة أمريكيون ولهم حق العمل، الطلبة من بلدان أخرى يدخلون أمريكا بفيزا طلبة لا تسمح لهم بالعمل إلا داخل جامعتهم. العمل مع الدراسة يجعل أغلب الطلبة تعمل بجد لأنهم يدفعون المصاريف الباهظة (جداً) للجامعات في أمريكا ويستدينون (أغلب الطلبة تسدد هذه القروض على عدة عقود!) للدراسة فلابد أن يجتهدوا وإلا تخرجوا بدرجات سيئة لن تسمح لهم بعمل مجزي وعليهم أيضاً تسديد القروض وقد لا يتخرجون وعليهم تسديد القروض فلابد أن يبذلوا ما في وسعهم من أجل الإجتهاد في الدراسة قدر الإمكان. هذه الطريقة لا تنفع كما هي في مصرلأن أغلب الطلاب لا يدفعون شيئاً لكن عائلاتهم هي التي تدفع فلا يوجد دافع للإجتهاد إلا الدافع الأدبي وطريقة التربية ناهيك عن وجود بعض الجامعات الخاصة التي يدخلها الطلاب "بفلوسهم" وهو يتصورون أنهم لابد ناجحون. فماذا نفعل حيال ذلك؟ هناك الكثير من الأفكار سنعرض واحدة هنا بدون تحليل ونترك تحليلها لمكان آخر أو مقال آخر: ماذا لو كان هناك "ضريبة" على الدرجات السيئة؟ فكما هناك مكافآة تفوق فلتكن هناك ضريبة رسوب أو زيادة مصروفات؟
الشئ الآخر الذي نلاحظه في الحياة الجامعية في أمريكا هو وجود أساتذة من جنسيات مختلفة، جدير بالذكر أن أغلب الأمريكيين لا يريدون عمل دكتوراه ويفضلون إنشاء شركات أو العمل في شركات كبرى، لذلك تجد أغلب الأساتذة من جنسيات أخرى، هذا التنوع في الشخصيات والعادات وطرق التفكير يعطي العملية التعليمية والبحثية دفعة كبيرة للغاية وقد تكلمنا من قبل عن أهمية التنوع في الفريق البحثي وجدير بالذكر أن أمريكا أصبحت دولة قوية بتنوع العلماء والباحثين الذين إلتقطتهم من دول عديدة (أغلب العلماء الذين شاركوا في أبحاث وصناعة الترسانة النووية الأمريكية جاءوا مهاجرين من أوروبا أي أنهم ليسوا حتى من الجيل الثاني).. وهنا يجب أن نتذكر أن جامعة القاهرة في أول عدة عقود من عمرها كانت تحمل هذا التنوع الجميل وكان عندنا أساتذة كثيرين من أوروبا.. ماذا لو حاولنا إعادة ذلك عن طريق تعيين أساتذة من الخارج ولو حتى أساتذة زائرين؟ ذلك يستلزم بعض الموارد المالية بالإضافة إلى تحبيذ فكرة التعيين على التكليف.
شئ آخر نلاحظه في الحياة الجامعية في الخارج أن من حصل على الدكتوراه من جامعة معينة عادة لا يُعين في نفس الجامعة، هذا ليس قانوناً مكتوباً ولكنه شئ محبذ حتى يتأقلم هذا الباحث الجديد على طرق عمل وتفكير أخرى تساعده على إثراء أدواته لأنه لو عمل بنفس جامعته التي تخرج منها غالباً سيظل يعمل مع مشرفه وفي أبحاث قريبة من أبحاثه أثناء الدكتوراه وسيفقد ميزة التنوع. يمكن أن يعود لجامعته بعد فترة ولكنه يجب أن يقضي فترة في جامعة أخرى. إنه التنوع مرة أخرى. أعتقد أننا عندنا في مصر شئ مشابه في الأساتذة الذين سافروا لتحضير الدكتوراه في الخارج ثم عادوا. فهم يعملون في جامعة غير التي تخرجوا فيها. فهلا حاولنا تطبيق ذلك على من يحصلون على الدكتوراه من مصر؟ ذلك سيكون من أثره تعزيز التعاون بين الجامعات المصرية وسيظهر التأثر الإيجابي لذلك على العملية التعليمية والبحثية.
من أجمل الفترات الدراسية التي قضيتها كانت فترة دراسة الدكتوراه حيث كانت مجموعتنا البحثية تقريباً تقيم في المعمل وهذا كان من أثره بناء أواصر التعاون بين طلاب الدراسات العليا والإحساس بالإنتماء الكبير للجامعة التي نقيم فيها أغلب أوقات الليل والنهار ناهيك عن إجتماعات العصف الذهني بين الطلاب بدون أساتذتهم والعمل والترفيه في نفس المعمل. هذا يجعلك تحب القدوم إلى المعمل ومن ثم تتقدم في عملك. أنا أتفهم أننا قد لا نستطيع فتح المعامل في الكليات لمدة 24 ساعة بما فيها أيام العطلات لأسباب أمنية ولم أجد في جامعات كثيرة في أوروبا هذا التقليد أيضاً ففي جامعات كثيرة هناك إذا أتيت إلى المعمل في الليل أو العطلات لن تجد أحدا. ولكن ما أطالب به هو أن نفعِل فكرة الفريق البحثي الذي يقيم في معمل أثناء ساعات العمل ويكون على إتصال ببعضه البعض بصفة دائمة فذلك سيقوي من أواصر الصداقة والتفاهم والبحث العلمي أيضا.
أختم بشئ أفتقده بشدة في أمريكا ولكنه موجود عندنا في مصر وهو العلاقة بين الأستاذ والطالب فأستاذ الجامعة مبجل بين الطلاب ومثل أعلى لهم وهو يحمل لهم مشاعر أبوية وقد تكلمنا في مقالات كثيرة عن الكثير من علمائنا العظام في مصر، على الأقل هذا كان الحال حين تخرجت وأجد بعض أثاره حتى اليوم في بعض أساتذتنا الكبار، الأستاذ في أمريكا يكون "براجماتيا" في أغلب الأحيان، هنا تقاليدنا في مصر أفضل ... أو قد يكون هذا شعوري بحكم المنشأ.
الكثير مما تحدثنا فيه اليوم لا يحتاج إمكانيات ولكن رؤية وخطة وإرادة.