جاء اختيار الدكتور كمال الجنزورى رئيسا للوزراء، وكأنه أقصى تنازل يمكن أن يقدمه المجلس العسكرى لثوار التحرير طبقا لموازين القوى الراهنة بين الطرفين، بعد معركة التحرير الدامية فى شارع محمد محمود.. فالجنزورى هو الحل الوسط بين مطالب الثوار ببناء نظام سياسى جديد فى مصر، وبين رؤية المجلس العسكرى التى تريد إجراء إصلاحات على نفس النظام القديم وليس تغيير بنيته وتوجهاته بشكل جذرى!
فالرجل الذى يلقبه البعض بأنه كان وزيرا للفقراء بوقوفه ضد خصخة زميله عاطف عبيد، ليس له تاريخ سياسى يتناسب مع حدث بحجم ثورة 25 يناير، فقد كان من رجال نظام مبارك الكبار لسنوات عديدة، وباعترافه هو شخصيا فإن سبب إقصائه الحقيقى مع رئاسة الوزارة، هو غضب المخلوع من تنامى شعبيته!
ومع ذلك، فإن نقطة ضعف الجنزورى بارتباطه بنظام مبارك، تنطبق على كثيرين من المحسوبين على الثورة، وأولهم سلفه الدكتور عصام شرف الذى حمله ثوار التحرير على الأعناق، وأوصلوه لرئاسة الوزارة، وأثبت الرجل أنه كان اختيارا خاطئا بكل المقاييس!
الجنزورى الآن يمشى فى حقل ألغام.. فلا هو يحظى بدعم الثوار، ولا هو حصل على صلاحيات واضحة ومحددة تمكنه من تنفيذ سياساته، فالمشير طنطاوى لم يعط له سوى صلاحيات «عرفية» دون إجراء تعديلات دستورية تعطى هذه الصلاحيات الشرعية الواجبة، وهو ما يمكن ان يجعل حكومة الجنزورى عاجزة عن الإسراع بمحاكمة قتلة الشهداء.. وتطهير وزارة الداخلية من العناصر الفاسدة التى تنتمى لنظام المخلوع.. وإعلان حد أدنى وأقصى للأجور.. والتعجيل بمحاكمة مبارك فى كل الجرائم السياسية والجنائية المتهم بها.. إلى آخر مطالب الثورة!
طبقا لموازين القوى الراهنة، لن يجد الجنزورى أمامه سوى «نصف فرصة» ليثبت فيها قدرته على حل هذه الملفات، وأن رؤيته تتجاوز رؤية المجلس العسكرى، وإلا فإنه سوف يكون نسخة مكررة من عصام شرف بلا لون ولا طعم ولا رائحة.
الجنزورى قد يقدم طوق النجاة للمجلس العسكرى ويعيد الدفء لعلاقته المتأزمة مع ثوار التحرير ومع غالبية المصريين الآن، وقد يشعل الرجل أيضا ـ إذا فشل ـ جولة جديدة من الصراع الدامى بين الثوار والسلطة، ستكون بالتأكيد أشد عنفا وضراوة!
أنا شخصيا أميل إلى التفاؤل بقدرة الجنزورى على النجاح فى مهمته، إذا توافر شرطان أساسيان، أولهما ابتعاد العسكرى عن الشأن السياسى بعد فشله الذريع فيه طيلة الأشهر الماضية، والثانى استمرار الاعتصامات والفاعليات فى ميادين التحرير بكل محافظات مصر.. فنحن إذا كنا قد قبلنا الجنزورى على مضض، فليس هذا معناه اننا أعطيناه شيكا على بياض!